مقالات

سياسة الوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: معضلات متشابكة

نشرت بتاريخ 26 ديسمبر 2013

ليث أبو ردّاد


World AIDS Day

قبل خمسة أسابيع كنت في ورشة عمل في إحدى الدول العربية لتقديم نتائج دراسة أجراها فريقنا مؤخرا حول طرق انتقال فيروس نقص المناعة البشرية في ذلك البلد تحديدا. كان الحضور يتألف من المهتمين الرئيسيين العاملين في مجال جهود مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية، حيث جاؤوا لسماع نتائج هذا البحث. وضعت الدراسة، للمرة الأولى، خارطة لانتقال فيروس نقص المناعة البشرية بين المواطنين، وهو أول إنجاز من هذا النوع في بلد من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA).

وقد اتفق أن كان هذا البلد في طليعة بلدان منطقة الشرق الأوسط من حيث مواجهة فيروس نقص المناعة البشرية. وقد اعترفت الحكومة بمشكلة فيروس نقص المناعة البشرية، وأسست نظاما للكشف عنه، وزادت من حجم برامج الوقاية، ونظمت حملات توعية بفيروس نقص المناعة البشرية، وأعادت صياغة القوانين لحماية المتعايشين مع فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز، والمساعدة على تقليل الوصمة والتمييز التي يواجهونهما. إن مصلحة البلاد الخالصة لإجراء دراسات علمية تتعلق بفيروس نقص المناعة البشرية تشهد على التقدم الذي أحرزته لمواجهة مشكلة فيروس نقص المناعة البشرية لديها.

ومع ذلك، بينما كنت أقدم سلسلة من النتائج عن انتقال فيروس نقص المناعة البشرية؛ شعرت بوجود "حقيقة غير مريحة" على وجوه الحضور. كانت نتائج الدراسة ترسم صورة أكثر إشراقا مما توقعه العديد: ليس هناك انتشار وبائي لفيروس نقص المناعة البشرية بين عموم السكان في هذا البلد. ويقتصر انتقال الفيروس إلى حد كبير على مجموعات محددة من السكان. إلا أن هناك حقيقة قاسية تواجه صناع القرار في هذا البلد وغيره من دول المنطقة: ففيروس نقص المناعة البشرية يحدث إصابات، والأوبئة تنشأ بين متعاطي المخدرات حقنا (IDUs)، والرجال مثليي الجنس الذين يمارسون الجنس مع الرجال (MSM)، والبغايا (العاملات بالجنسFSWs ) وعملائهن من الذكور.

تحدث غالبية الإصابات بفيروس نقص المناعة البشرية بين هذه الفئات من السكان، أو بينهم والسكان الذين على اتصال جنسي مباشر بهم -كأزواج أعضاء هذه المجموعات المعرّضة للخطر. لقد وصفت دراستنا هذه المجموعات، ومدى انتشارها بين السكان، وسلوكياتهم، ومعدل انتقال فيروس نقص المناعة البشرية. تحدث 46% من حالات العدوى بفيروس نقص المناعة البشرية ضمن هذه الأمة في شبكات التجارة بالجنس. ويضيف انتقال فيروس نقص المناعة البشرية بين متعاطي المخدرات حقنا والرجال مثليي الجنس 21% أخرى. فإذا جُمعت النسبتان معا، نتوصل إلى أن العاملات بالجنس وزبائنهن الذكور، والرجال مثليي الجنس، ومتعاطي المخدرات حقنا يمثلون 67% على الأقل من جميع حالات العدوى بفيروس نقص المناعة البشرية هنا. وعلى الرغم من أن هذا البلد هو الأكثر تقدما في المنطقة من حيث الاعتراف بفيروس نقص المناعة البشرية، فقد رُفض طلبنا بإصدار بيان صحفي حول النتائج -بأدب- من قبل وزارة الصحة الوطنية.

الوباء والمشكلات

يجب أن يكون هذا اليوم العالمي للإيدز فرصة لجميع المعنيين، للتوقف وإعادة النظر في الأولويات، والتركيز على تجنب البؤس الذي يجلبه الانتشار الوبائي لفيروس نقص المناعة البشرية

من المفهوم أن طبيعة المجموعات السكانية التي ينتشر بينها فيروس نقص المناعة البشرية تشكّل معضلة للحكومات والمجتمعات المحلية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كيف يمكن أن تتعامل الحكومات مع هذه المجموعات غير المعترف بمجرد وجودها، والتي تعد ممارساتها غير قانونية، معيبة، ومدانة؟ كيف سينظر السكان إلى استخدام الأموال العامة للوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية بين هذه المجموعات السكانية؟

إذا أعدنا النظر إلى سجل الوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية في هذه المنطقة، فسنجد أن وصمة العدوى بفيروس نقص المناعة البشرية أدت إلى تأخير مواجهته. وعندما تحولت الجهود أخيرا إلى واقع، تم تخصيص معظم الأموال لوقاية عموم السكان من فيروس نقص المناعة البشرية؛ وهي المجموعات الآمنة في نظر الأعراف والتقاليد. ولكن البيانات التي تجمعت على مر السنين، أكدت بشكل قاطع محدودية انتقال فيروس نقص المناعة البشرية ضمن هذه الفئة من السكان، مقابل زيادة الانتشار الوبائي لفيروس نقص المناعة البشرية بين متعاطي المخدرات حقنا، والرجال مثليي الجنس، والعاملات بالجنس وزبائنهن. وعلى الرغم من أن نسبة كبيرة من صناع القرار في مجال الصحة العامة يعترفون اليوم بهذا الواقع، إلا أنهم يجدون تخصيص الموارد لأكثر الناس عرضة لخطر العدوى أمرا شائكا سياسيا. تواصل الموارد اللازمة لمواجهة هذا الوباء توجهها إلى المجموعات قليلة الإصابة -أو غير المصابة- بفيروس نقص المناعة البشرية، في حين يستمر الأفراد الذين هم في حاجة فعلية لها بأداء دور المتفرج فقط على ما يبدو لي في بعض الأحيان مسرحية هزيلة الإخراج، عنوانها: "الوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا".

ما تزال دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تعاني نقص القدرات البشرية والمالية اللازمة لمواجهة وباء فيروس نقص المناعة البشرية. ويعود الفضل في كثير من الجهود المبذولة في المنطقة بجدارة إلى المنظمات الدولية، مثل الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا، وبرنامج الأمم المتحدة المعني بفيروس نقص المناعة البشرية/ الإيدز، ومنظمة الصحة العالمية (WHO)، والبنك الدولي، من أجل تنفيذ البرامج، وبناء القدرات ضمن البلدان، وتمويل جهود الوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية. وفي الواقع، فإن العديد من أعضاء المكاتب الإقليمية في هذه المنظمات الدولية من ذوي الإرادة القوية هم أبطال جهود مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية، وتركوا تأثيرا دائما على أنظمة المراقبة والوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية.

ومع ذلك، فإن فعالية هذه المنظمات تعتمد على شخصيات قادتها وموظفيها وتوازنها. فالجهود تنقطع وتتأثر بتغيّر الموظفين. وفي بعض الأحيان كانت آراء هذه المنظمات الدولية وأولوياتها تمثل مفهوما ثقافيا يؤكد المناهج الخاضعة لتأثير المنظور الثقافي الغربي. ومع ذلك، كان بعض هذه الآراء يتعارض مع المعايير الثقافية السائدة بين صناع القرار والمجتمعات المحلية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كما هي الحال مع تلك المتعلقة بالرجال مثليي الجنس.

انقسام اجتماعي ثقافي


World Bank

على هذه الخلفية، نشأت جماعات الحقوق المدنية والمنظمات غير الحكومية في المنطقة، وبعضها ممن يدافع عن الحقوق التي لاقت قبولا على نطاق واسع في بعض المناطق من العالم، ولكنها ما زالت موضع جدل مع النسيج الاجتماعي والثقافي الخاص في هذه المنطقة. تؤكد هذه المنظمات غير الحكومية أنه لا يمكن فصل الوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية عن قضايا حقوق الإنسان، والحاجة إلى بيئات شاملة تتيح الوقاية لمعظم السكان المعرضين للخطر. الوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية هو ركن فحسب من مجموعة من القضايا التي تجب معالجتها في الوقت نفسه.

إن وجهات النظر المعارضة أو غير المتوافقة لجماعات التأييد، والمنظمات الدولية، ومسؤولي الصحة العامة على المستوى القطري، بالإضافة إلى غيرهم من المهتمين، غالبا ما تؤدي إلى اتصالات غير مجدية. وهذا يخلق جوا من عدم الثقة، يجعل الحوار حول سياسات مواجهة فيروس نقص المناعة البشرية يبدو في بعض الأحيان وكأنه مسابقة في الصراخ. وفي نهاية المطاف، يتحقق القليل في مجال الوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية؛ لأن البرامج الفعالة لمواجهة فيروس نقص المناعة البشرية تتطلب جهدا منسقا ومتناغما بين جميع هؤلاء اللاعبين.

قبل عدة سنوات قمت بزيارة أحد المرافق التي تعمل فيها منظمة غير حكومية مع متعاطي المخدرات حقنا في أحد الأحياء الفقيرة في عاصمة عربية. كانت المعتقدات الاجتماعية والثقافية نحو هذه المنظمة تختلف عن المعتقدات الاجتماعية والثقافية للمجموعة المستهدفة. كانت المنظمات غير الحكومية توفر خدمات جديرة بالثناء لحماية متعاطي المخدرات من فيروس نقص المناعة البشرية والإدمان على المخدرات. ولكني عندما تجولت في المنشأة، تملكني شعور لم أستطع تفاديه بأن هذه المنظمة غير الحكومية كان لها مهمة اجتماعية وثقافية تتجاوز الوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية. وكان هذا جليا في المنشورات التي شاهدتها في المنشأة. وربطا بذكريات أنشطة هذه المنظمات غير الحكومية في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، تساءلت عما إذا كانت المنظمات غير الحكومية ذات الجذور الثقافية البعيدة كل البعد عن تلك التي لهذه المنطقة تصلح لتكون نموذجا فعالا للمنطقة.

في وقت لاحق، كنت أتحدث مع باحثة ميدانية من منظمة غير حكومية تعمل مع العاملات بالجنس في بلد عربي آخر. وشرحت لي أن العاملات بالجنس ينجذبن إلى المنظمات غير الحكومية؛ لأنها توفر لهن الواقيات الذكرية، ومكانا للصلاة في سلام بعيدا عن بيوت الدعارة. هذه المنظمة غير الحكومية، على الرغم من أنها علمانية، كانت توفر ملاذا روحيا لهؤلاء العاملات بالجنس. وفي نقاش آخر مع باحث ميداني آخر من منظمة غير حكومية علمانية أخرى تعمل مع متعاطي المخدرات حقنا في بلد عربي آخر، عبّر عن استيائه لعدم تمكنه من إنشاء منظمة إسلامية غير حكومية تعمل مع متعاطي المخدرات حقنا؛ لأن السلطات في البلاد لن تسمح بذلك، ولأن معظم علماء المسلمين لا يوافقون على هذه الجهود. كثيرا ما ينظر إلى المنظمات الإسلامية غير الحكومية في هذه المنطقة بعين الشك من قبل الحكومات التي تخشى المعارضة الإسلامية الشعبية، ولا يزال أغلبية علماء الدين غير قادرين على قبول منطق الوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية ودرء المخاطر بين المجموعات الرئيسية المعرّضة للخطر.

المضيّ قدما

على الرغم من أن هذا البلد هو الأكثر تقدما في المنطقة من حيث الاعتراف بفيروس نقص المناعة البشرية، فقد رُفض طلبنا بإصدار بيان صحفي حول النتائج –بأدب- من قبل وزارة الصحة الوطنية.

يجب أن يكون هذا اليوم العالمي للإيدز فرصة لجميع المعنيين؛ للتوقف وإعادة النظر في الأولويات، والتركيز على العوامل الرئيسية المشتركة للوقاية من الفيروس، وتجنب البؤس الذي يجلبه الانتشار الوبائي لفيروس نقص المناعة البشرية. وهذا –برأيي- يعني بطبيعة الحال مفهوما صحيا عاما يفصل الوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية عن المناقشات اللاذعة المستمرة، والسياسات الساخرة المحيطة ببعض القضايا الاجتماعية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

الواقع في هذه المنطقة هو أن أوبئة فيروس نقص المناعة البشرية آخذة بالانتشار بين متعاطي المخدرات حقنا، والرجال مثليي الجنس، والعاملات بالجنس وزبائنهن. وتتأثر المجموعات السكانية الأخرى -ومعظمها من أزواج أفراد تلك الجماعات، وأحيانا أطفالهم- بهذه الأوبئة. يجب عدم إهدار موارد الوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية في محاولة منع انتشار فيروس نقص المناعة البشرية بين عامة السكان، حيث تكون حالات عدوى فيروس نقص المناعة البشرية قليلة جدا، مع تجاهل المشكلات الناشئة في المجموعات الرئيسية المعرضة للخطر. يجب تحديد أولويات موارد مواجهة فيروس نقص المناعة البشرية تبعا لمواقع احتياجاتها.

الحكومات بحاجة للعمل مع المجموعات المعرّضة للخطر -وإن بتحفظ- وحتى لو كانت دولا لا تعترف علنا بوجودها، أو إن اعتبرت ممارساتها غير قانونية وغير شرعية. قد تكون المنظمات غير الحكومية المدعومة من الحكومة هي الصيغة الناجحة لجهود فيروس نقص المناعة البشرية؛ حيث تقوم الحكومات بتمويل المنظمات غير الحكومية ودعمها، لتوفر الخدمات بسرية للمجموعات الرئيسية المعرضة للخطر. المنظمات غير الحكومية تمكّن الحكومات من التعامل مع هذه المجموعات بشكل غير مباشر، وتتجنب بالتالي الحساسيات السياسية أو الثقافية التي تترتب على جهود التوعية الصريحة. المنظمات غير الحكومية بحاجة إلى قاعدة شعبية من داخل النسيج الثقافي لهذه المنطقة، ويجب دعمها وتمكينها من القيام بعملها في الوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية.

إن الوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية في منطقة الشرق الأوسط أمر صعب، لكنه ممكن بالتأكيد، إذا وافق جميع اللاعبين الرئيسيين على وضع خلافاتهم جانبا والتركيز على مبدأ نتفق جميعا عليه: نحن بحاجة لمنع انتشار فيروس نقص المناعة البشرية في هذه المنطقة. ولكن مهما كانت القضايا شائكة، لا نستطيع الجلوس مكتوفي الأيدي، والاكتفاء بمشاهدة بؤس هذا الوباء الآخذ بالانتشار.

ليث أبو رداد هو أستاذ مساعد في الصحة العامة، والباحث الرئيسي في مجموعة وبائيات الأمراض المعدية في كلية طب وايل كورنيل في قطر (WCMC-Q).

doi:10.1038/nmiddleeast.2013.254