أخبار

«ليجو» يحتفل بعقد من الأرصاد وعصر جديد من اكتشافات الثقوب السوداء يلوح في الأفق

نشرت بتاريخ 30 سبتمبر 2025

قبل عقد، خرج لنا كاشفا هذا المرصد بأول أرصاد لموجات الجاذبية. واليوم، يرسم باحثون خططًا طموحة للجيل القادم من مراصد هذه الموجات الكونية.

دافيديه كاستلفيكي

منشأة «مرصد قياس تداخل موجات الجاذبية بالليزر» (اختصارًا «ليجو» Ligo) في مدينة هانفورد بولاية واشنطن الأمريكية. 

منشأة «مرصد قياس تداخل موجات الجاذبية بالليزر» (اختصارًا «ليجو» Ligo) في مدينة هانفورد بولاية واشنطن الأمريكية. 
حقوق نشر الصورة: IMAGO/Xinhua via Alamy

بعد عشر سنوات  على الاكتشاف التاريخي لموجات الجاذبية، والذي رُصدت من بعده المئات من هذه  التموجات في نسيج الزمان المكاني، يرى علماء فيزياء أن الإنجازات في هذا الإطار لا تزال على أول الطريق.

في الرابع عشر من سبتمبر عام 2015، استشعرت المنشأتان التوأم التابعتان لـ«مرصد قياس تداخل موجات الجاذبية بالليزر» (اختصارًا «ليجو») في مدينة هانفورد بولاية واشنطن الأمريكية ومدينة ليفينجستون في ولاية لويزيانا الأمريكية تموجات في نسيج الزمان المكاني، بدأت قبل مليارات السنين في حدث  اندماج هائل بين ثقبين أسودين تفصلهما عنا العديد من المجرات.

وقد تطلب تحقيق هذا الإنجاز أكثر من أربعة عقود من الاكتشافات والبطولات في تحسين عدد من التقنيات التجريبية. لكن رصد أنظمة الثقوب السوداء الثنائية تلك أصبح اليوم معتادًا. فعلى مدار العشر سنوات الماضية، تضاعفت  دقة كاشفي مرصد «ليجو»، إلى جانب دقة مرصديه الشقيقين «فيرجو» Virgo، الواقع بالقرب من مدينة بيزا الإيطالية، و«كاجرا» KAGRA الواقع أسفل جبل «إكينوياما» في اليابان، ما سمح لهذه المراصد بمراقبة مساحة كونية أكبر بمقدار الضعف من السابق وتحتضن عددًا أكبر بثماني مرات من المجرات. في ذلك الصدد، يقول ديفيد رايتزه، الفيزيائي من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في ولاية باسادينا الأمريكية، والذي تولى منذ فترة طويلة إدارة منشآت «ليجو» الرصدية: "في المتوسط، صرنا نرصد أنظمة الثقوب السوداء الثنائية كل ثلاثة أيام، وهو ما أجده مذهلًا للغاية.  ولا شك أن القادم سيكون أفضل".

وعلى مدار العقد القادم، تأمل الفرق البحثية في الولايات المتحدة وأوروبا في بناء مراصد أكبر قادرة على رصد موجات الجاذبية في أي نقطة من الكون المرئي. من هنا، تتقصى دورية Nature  خطط العلماء من أجل الجيل القادم من كواشف موجات الجاذبية.

مرصد «كوزميك إكسبلورر»

يسعى الباحثون الأمريكيون في مجال موجات الجاذبية إلى بناء مرصد «كوزميك إكسبلورر» Cosmic Explorer، وهو مرصد لقياس تداخل موجات الجاذبية، شبيه بمرصد «ليجو»، لكنه ذو أذرع تأخذ شكل حرف «إل» L، ويربو طولها بعشر مرات على طول أذرع مرصد «ليجو»، إذ تمتد لـ40 كيلومترًا. وحال بناء هذا المرصد، وعمله وفق المخطط، يُفترض أن يرصد 100 ألف اندماج للثقوب السوداء، ليكتشف هذه الأحداث الكونية في أيما نقطة تقع فيها من الكون المرئي. ويضيف رايتزه أن هذا العدد يشمل أحداث الاندماج التي وقعت قبل عشر مليارات عام، حينما بلغت عمليات خلق النجوم وتدميرها أوج نشاطها في المجرات، ما كان يُسفر عن نشأة الثقوب السوداء وأحداث اندماجها. ويضيف: "لا شك أن هناك رغبة حقيقية في التمتع بالقدرة على سبر الماضي".

وحسبما يفيد ستيفان بالمر، الفيزيائي من جامعة سيراكيوز في مدينة نيويورك الأمريكية، من المزمع أن يرصد «كوزميك إكسبلورر» كل عام أكثر من مليون حدث اندماج لأجرام أخف وزنًا، تُعرف باسم النجوم النيوترونية — بمعدل اندماج واحد كل عدة ثوان.

إلا أن بناء المرصد يُتوقع أن يكبد تكلفة باهظة. فبما أن ذراعيه سيمتدان إلى نقطة تجاوز الأفق، سيواجه تحديات بسبب انحناء سطح الأرض. وإن شُيدت نقطتا نهايته عند مستوى سطح الأرض، سيتعين بناء الأجزاء المتوسطة منه على عمق يقارب 30 مترًا تحت سطح الأرض.  من هنا، يجري فيزيائيون مسحًا للولايات المتحدة بحثًا عن بقاع نائية، ذات تكوين أرضي مقعر بشكل طبيعي، ما قد يقلل تكاليف الحفر من أجل بناء المرصد. في هذا الإطار، يقول بالمر: "نعمل في الوقت الحالي على المفاضلة بين المواقع الواعدة لاختيار الأنسب منها".

تحديثات مرصد «ليجو»

في الوقت نفسه، يُزمع أن تصل خطة تحديثات، يُطلق عليها اسم «# LIGO A» أو (A-sharp)، بدقة مرصد ليجو إلى الضعف في مطلع ثلاثينيات القرن الحالي، لتساعد أيضًا في اختبار كفاءة التقنيات المتقدمة التي ستدخل في نهاية المطاف في بناء مرصد «كوزميك إكسبلورر».  وتشمل هذه التحسينات تعزيز قوة أجهزة بث أشعة الليزر التي تمر داخل ذراعي مقياس تداخل الموجات بالمرصد. كذلك يعتزم فريق العمل بمرصد «ليجو» تركيب مرايا معلقة أثقل وزنًا وأكثر ثباتًا وأكثر قدرة على عكس الليزر بدقة في نهاية هذين الذراعين. (أجهزة قياس تداخل الموجات ترصد موجات الجاذبية بقياس التغيرات الطفيفة التي تطرأ على مقدار الوقت الذي يستغرقه ارتداد أشعة الليزر بين المرايا).

غير أن التمويلات المخصصة للحفاظ على مرصد «ليجو»، وإدخال أي تحديثات عليه، ناهيك عن تمويل أية منشآت رصدية جديدة تتخذ من الولايات المتحدة مقرًا لها، قد تغدو مهددة بالانقطاع إن نجح الرئيس دونالد ترامب في مساعيه نحو  تقليص «حجم المؤسسة الوطنية الأمريكية للعلوم»، وهي الوكالة التي موّلت إنشاء مرصد «ليجو» وأنشطته. رغم ذلك، ألمح الكونجرس الأمريكي إلى أنه قد يتجه إلى فرض اقتطاعات أقل حدة في ميزانية «ليجو»، ما كان بمنزلة بصيص أمل لبعض الباحثين. في ذلك الصدد، يقول رايتزه: "أظن أن ما علينا إلا أن ننتظر لنرى".

رسم تخيلي لـ«تلسكوب آينشتاين»، وهو مرصد موجات جاذبية تحت الأرض ذو ثلاثة أذرع، تتراص في هيئة مثلث، ويبلغ طول كل منها 10 كيلومترات. 

رسم تخيلي لـ«تلسكوب آينشتاين»، وهو مرصد موجات جاذبية تحت الأرض ذو ثلاثة أذرع، تتراص في هيئة مثلث، ويبلغ طول كل منها 10 كيلومترات. 
حقوق نشر الصورة: Marco Kraan (Nikhef)

«تلسكوب آينشتاين»

في أوروبا، يعكف علماء فيزياء على وضع تصميم مرصد آخر طموح يخلف أجهزة قياس تداخل موجات الجاذبية الحالية. هذا المرصد، المعروف باسم «تلسكوب آينشتاين»، يُزمع أن يتمتع بتصميم مُبتكر، تنثني فيه أذرعه على شكل حرف «L» بزاوية حادة قدرها 60 درجة، وتتقاطع مشكلة مثلثًا متساوي الأضلاع. ورغم أن أذرع هذا التلسكوب يبلغ طول كل منها 10 كيلومترات، ما يعني أنه يغطي مسافة أقصر من تلك التي قد يغطيها «كوزميك إكسبلورر»، فهو يتمتع بمزيتين كبيرتين. أولاهما أنه سيُشيد تحت الأرض، على عمق يزيد على مائتي متر. أما ثانيهما، فهو أن المرايا الخاصة به عند نهاية كل ذراع، سيتم تبريدها إلى درجة حرارة تربو قليلًا على الصفر المطلق.

وكلا هاتين المزيتين تقلصان الضجيج الخلفي عند الترددات المنخفضة. وفي حين أن مرصد «كوزميك إكسبلورر» صُمم للعمل بكفاءة عند نفس نطاق الترددات التي يكتشفها مرصد «ليجو» (من 10 إلى ألف هرتز)، من المزمع أن يستهدف «تلسكوب آينشتاين» الوصول بالحد الأدنى لقيمة الترددات التي يمكنه رصدها إلى هرتز واحد، ما يسمح له باكتشاف أنظمة الثقوب السوداء الثنائية في مراحل مبكرة من عملية تصادم الثقوب السوداء فيها، فضلًا عن اكتشاف أحداث اندماج ثقوب سوداء أكبر حجمًا.

وهنا يفيد أندرياس فرايزه، عالم الفيزياء من جامعة أمستردام الحرة، أنه شرع مع آخرين في عام 2005 في تبادل الأفكار بشأن تصميم هذا المرصد المتطور، في وقت سارت فيه الخطى الأولى نحو تأسيس مرصدي «ليجو» و«فيرجو» بحذر.  فيقول حول ذلك: "أدركنا أن علينا أن نلجأ إلى التبريد إذا أردنا حقًا العمل في نطاق الترددات المنخفضة".

باحثون في مختبر «باثفايندر» Pathfinder التابع لـ«تلسكوب آينشتاين» في أثناء تجميع نموذج مصغر من التلسكوب. 

باحثون في مختبر «باثفايندر» Pathfinder التابع لـ«تلسكوب آينشتاين» في أثناء تجميع نموذج مصغر من التلسكوب. 
Harry Heuts/ETPathfinder

فرايزه هو أيضًا المدير المشارك لرابطة دولية من الباحثين تُعرف باسم «منظمة تلسكوب آينشتاين»، وهي تنسق العمل بين عدة مختبرات تعمل على تطوير التقنيات التي ستخرج بـ«تلسكوب آينشتاين» إلى النور. وفي أحد هذه المختبرات، وتحديدًا في مختبر «آينشتاين باثفايندر» الواقع في مدينة ماستريخت الهولندية، يعكف عدد من الباحثين على تجميع نموذج مصغر من «تلسكوب آينشتاين»، يعمل بكامل طاقته ويبلغ طول أذرعه 20 مترًا فقط. كما يطور هؤلاء الباحثون تقنية رائدة، تتمثل في استخدام جهاز تبريد فائق يمكنه الإسهام في الحفاظ على برودة مرايا مقياس التداخل بالتلسكوب، دون نقل ضجيج إليها. وتستخدم في هذه التقنية "أجهزة تبريد بالارتشاف"، وهي أجهزة خالية من الأجزاء المتحركة التي قد تخلق اهتزازات غير مرغوب فيها.

وبحسب مؤيدي المشروع، قوبل مقترح إنشاء «تلسكوب آينشتاين» حتى الآن بِردة فعل مشجعة من الحكومات الأوروبية.  على سبيل المثال، رصدت إيطاليا أكثر من مليار يورو (1.2 مليار دولار أمريكي) لتكاليف إنشاء التلسكوب، حال بنائه في الموقع الذي ترشحه، وهو جزيرة ساردينيا الإيطالية ذات النشاط الزلزالي الضعيف. أما بلجيكا وهولندا، فقد عرضتا مبلغًا مماثلًا لدعم إنشاء التلسكوب في الموقع الذي ترشحانه في منطقة على الحدود بين البلدين بالقرب من مدينة ماستريخت. كذلك طرحت الحكومة الألمانية خيارًا آخر، عرضت فيه إنشاء التلسكوب في ولاية ساكسونيا الواقعة شرقها. وتجري في الوقت الحالي دراسات جدوى لكل موقع رُشح إنشاء التلسكوب على أرضه، وتشارك خمس دول أوروبية أخرى على الأقل في محادثات بناء التلسكوب. غير أن القرار فيما يخص إنشاء التلسكوب وموقع إنشائه، بما في ذلك ما إذا كان من الممكن أن يقوم على أرض مشتركة بين موقعين، يُستبعد أن يُتخذ قبل عام 2027. في ذلك الصدد، يقول فرايزه: "عندما أعود بذاكرتي إلى تلك اللحظة التي جلست فيها [قبل 20 عامًا] في غرفة، لرسم بعض الخطط هنالك على ورقة، أجد حجم الأصداء التي قوبلت بها هذه الفكرة مذهلًا".

هذه ترجمة المقال الإنجليزي المنشور في دورية Nature بتاريخ 12 سبتمبر عام 2025.

doi:10.1038/nmiddleeast.2025.168