لماذا يحتاج العالم العربي إلى علم الأحياء التركيبي؟
11 September 2025
نشرت بتاريخ 7 سبتمبر 2025
مشروع بانجينوم سعودي–ياباني جديد يكشف عن أنماط جينية مفقودة في المراجع التقليدية، ويقدّم نموذجًا للتعاون الإقليمي وبناء موارد جينومية أكثر شمولًا وعدالة.
على مدى سنوات طويلة، اعتمدت معظم التحليلات الجينية على مقارنة الأصول الوراثية للأفراد وفقًا لمرجع جينومي واحد، وهو نهج أثبت فاعليته، باستثناء ما يخص المجموعات السكانية غير المُمثَّلة في ذلك المرجع. أما اليوم، يتجه علم الجينوم البشري نحو تبني نماذج الخرائط الجينومية الشاملة (البانجينوم) القائمة على تنوع المجموعات السكانية، والتي تعكس مدى اتساع التنوع الجيني على مستوى البشر.
يشير مصطلح «الخريطة الجينومية الشاملة» أو «البانجينوم» Pangenome إلى رسم خريطة للحمض النووي من خلال دمج تسلسلات جينية من مجموعة متنوعة من الأفراد، بدلًا من الاعتماد على الحمض النووي لفرد واحد كمرجع قياسي. فقد أظهرت الدراسات أن الاقتصار على استخدام مرجع واحد فقط قد يُغفل الاختلافات المشتركة بين مجموعات سكانية بعينها. لذا، توفر الرسوم البيانية الخاصة بالخرائط الجينومية الشاملة مسارات بديلة تعكس على نحو أدق التنوع الجيني الحقيقي للأفراد. يكتسب هذا النهج أهمية خاصة عند دراسة المناطق ذات البنية الجينومية المعقدة، وكذلك لدى المجموعات السكانية التي لا تحظى بتمثيل كافٍ في الجينومات المرجعية، لا سيما في دول آسيا والشرق الأوسط.
حقق اتحاد الخرائط الجينومية البشرية المرجعية (HPRC) تقدمًا ملحوظًا في تطوير أطر عمل تعتمد على الرسوم البيانية؛ إلا أن الإصدارات الأولى من تلك الخرائط خلتْ من تمثيل المجموعتين السكانيتين اليابانية والسعودية على حد سواء، اللتين تضمان معًا ما يقرب من 160 مليون نسمة. غياب هاتين المجموعتين لا يُمثل فجوة علمية فحسب، بل يكشف أيضًا عن استمرار التفاوت في تحديد أولويات البحث العلمي.
بصفتنا علماء من المملكة العربية السعودية واليابان، شعرنا بمسؤولية مشتركة تجاه سد هذه الفجوة. وبدلًا من انتظار إدراج بلدينا في الجهود الدولية المبذولة في هذا السياق، وحّدنا جهودنا لبناء موارد جينومية خاصة بسكان البلدين، وحرصنا على إتاحتها للجميع وفقًا لمبادئ (FAIR)، التي تعني قابلية البحث في البيانات، والاطلاع عليها، والاستفادة منها، وإعادة استخدامها.
قدمنا في بحثنا الأخير أول تجميعات لأطوار الخرائط الجينومية الشاملة، وأول مراجع معتمدة على الرسوم البيانية تُمثل المجموعات السكانية من المملكة العربية السعودية واليابان. كما أجرينا عملية تسلسل جينومي لتسعة أفراد سعوديين وعشرة أفراد يابانيين باستخدام مزيج من تقنيات متعددة، وأنشأنا مرجعًا مُجمَّعًا أطلقنا عليه اسم «JaSaPaGe».
يضم المرجع البياني المشترك الجديد أكثر من 11 مليون تغيير أحادي الحرف في تسلسل الحمض النووي، مما يُوسِّع قاعدة البيانات الخاصة بالاختلافات الجينية المعروفة مقارنةً بالمراجع السابقة.
يمكن القول إن هذا المشروع أثمر نتائج ملموسة؛ إذ تمكنّا من رصد التغيرات الطفيفة في الحمض النووي - سواء كانت تغيرات في حرف واحد أو عمليات إدخالٍ أو حذفٍ صغيرة- بدقة تفوق ما توفره المراجع الخطية القياسية أو حتى الرسوم البيانية التي وضعها اتحاد الخرائط الجينومية البشرية المرجعية. فعلى سبيل المثال، في أحد الجينات المؤثرة في استجابة الأشخاص لأدوية بعينها، كشفت الخريطة الجينومية الشاملة عن أنماط وتغيرات غالبًا ما تغفلها المراجع التقليدية، مثل وجود نسخ إضافية أو مفقودة من ذلك الجين.
وإلى جانب دور «JaSaPaGe» في تعزيز دقة تفسير المتغيرات الجينية وتطبيقها في مجالات الطب الدقيق، فإنه يمثل أيضًا نموذجًا أخلاقيًّا وعمليًّا لبناء الموارد الجينومية في المناطق الأقل تمثيلًا. ففي السعودية، صممنا آلية موافقة تراعي الخصوصيات الثقافية للمجتمع، إذ استخدمنا مواد بعدة لغات، وقدمنا استشارات شخصية في مجال الوراثة لضمان فهم المشاركين التام للغرض من مشاركتهم والمخاطر المحتملة. كذلك نشرنا جميع البيانات والتجميعات والمراجع البيانية حتى يتمكن الباحثون والأطباء الإكلينيكيون حول العالم من استخدامها دون أية قيود.
وعلى الرغم من أننا نعُد هذا العمل بمثابة خطوة إلى الأمام، فإن العديد من التحديات ما زالت قائمة. على سبيل المثال، حجم العينة الحالية لا يكفي لتقديم صورة شاملة للتنوع الجيني سواء في المملكة العربية السعودية أو اليابان. إضافة إلى ذلك، سنكون بحاجة إلى إشراك أعداد أكبر من الأفراد، ولا سيما من المجتمعات القبلية والإقليمية غير المُمثلة تمثيلًا كافيًا. كما أن دمج الخرائط الجينومية الشاملة في الممارسات الإكلينيكية يتطلب تطوير أدوات ومعايير قياسية جديدة.
من ناحية أخرى، تؤكد نتائج هذا التعاون البحثي أهمية الشراكات الإقليمية في مجال دراسات الجينوم. فعلى الرغم من بُعد المسافة الجغرافية بين الدولتين، نجحنا في دمج الجينومات السعودية واليابانية في مورد مشترك، وهو ما يؤكد أن تنوع الأصول الوراثية قادر على إثراء المشهد الجينومي للقارة الآسيوية بأسرها.
ومع تطور أدوات الخرائط الجينومية الشاملة، من المؤكد أن التطبيقات الإكلينيكية ستشهد توسعًا وانتشارًا أكبر، بما يتيح تفسير المتغيرات الجينية بطرق أكثر دقة وإنصافًا. وأخيرًا، نأمل أن شكل البانجينوم «JaSaPaGe» نموذجًا يُحتذي به، وأن يكون دافعًا لمزيد من الاستثمارات والتعاون والابتكار من أجل بناء مشاريع جينومية تغطي مختلف أنحاء المنطقة.
doi:10.1038/nmiddleeast.2025.153
تواصل معنا: