عاصفة من الجدل أشعلها حصول الذكاء الاصطناعي على اثنتين من جوائز نوبل
14 October 2024
نشرت بتاريخ 31 أكتوبر 2023
تعمل وحدات تكييف الهواء القياسية على تبريد هواء المباني، لكنها تُسهم في تفاقُم الاحترار العالمي. من هنا، تسعى تقنيات تبريد جديدة إلى تفجير ثورة تغيير، تضع حدًا لهذا الوضع.
خلال شهر يوليو الماضي، بلغ ارتفاع درجات الحرارة أقصى مستوياته على مدار تاريخ البشرية. إذ حطمت موجات الحر التي شهدها ذاك الشهر الأرقام القياسية لأعلى درجات الحرارة على مستوى العالم، حتى إنها جلبت حر الصيف إلى تشيلي والأرجنتين خلال شتاء نصف الكرة الجنوبي. والمشكلة تعدو التبعات المزعجة لذلك من شعور بالحر يجعل المرء يتصبب عرقًا. فالحر الشديد هو الأكثر فتكًا بين جميع الأحداث المناخية. فهو يقتل في الولايات المتحدة وحدها، على سبيل المثال، عدد أشخاص أكبر مما تتسبب فيه الفيضانات والأعاصير والعواصف. ومع تفاقم حدة التغير المناخي، بدأت الأهمية الصحية للوصول إلى مساحات تتمتع بوحدات تبريد صناعي تتزايد سريعًا، لتصبح من حقوق الإنسان الأساسية.
غير أن أنظمة تكييف الهواء التقليدية استدرجتنا إلى الوقوع أسرى لحلقة مفرغة من التأثيرات المتفاقمة؛ فكلما تزايدت شدة الحر، تزايد عدد من يلجؤون إلى تشغيل وحدات تكييف الهواء، ليتزايد كنتيجة حجم الطاقة المستخدمة، وبالتبعية حجم انبعاثات غازات الدفيئة. توضح ذلك نيكول ميراندا، وهي مهندسة متخصصة في أبحاث التبريد المستدام، من جامعة أوكسفورد، قائلة: "تعبير الحلقة المفرغة لا يفي الأمر حقه من الوصف، بل هي أيضًا حلقة متسارعة العجلة". فاستخدام أنظمة التبريد يُعد مصدر استهلاك الطاقة الأسرع نموًا في المباني، وفقًا لبيانات وردت عام 2018 عن وكالة الطاقة الدولية (IAE). من هنا، في سيناريو يُفترض فيه بقاء الحال على ما هو عليه، تتنبأ الوكالة بأن ينمو حجم الطلب السنوي العالمي على طاقة أنظمة التبريد ليصل إلى ثلاثة أضعافه بحلول عام 2050، أي أن يتزايد بما يعادل 4000 تريليون وات لكل ساعة، وهو مقدار يضاهي ما تستهلكه الولايات المتحدة بأسرها من طاقة سنويًا.
وشيئًا فشيئًا، بدأ يغدو جليًا أن البشر لا يستطيعون أن يسبقوا خطى التغير المناخي بالاعتماد على تقنيات تبريد الهواء نفسها التي ظلت قيد الاستخدام لقرابة قرن. إذ يتطلب تحطيم هذه الحلقة المفرغة ابتكارات جديدة تساعد في تبريد الهواء لعدد أكبر من الأشخاص بأثر بيئي أقل.
وأحد مواطن القصور الشهيرة التي تشوب أنظمة تبريد الهواء الحالية هو اعتمادها على مواد تبريد كيميائية، كثير منها يُصنف على أنه من غازات الدفيئة وخيمة الأثر. من هنا، تستهدف بعض المشروعات الاستعاضة عن هذه المواد بمواد تبريد أخف ضررًا، لكن حتى بفرض أنه أمكن ذلك، فهذه المواد، من ناحية أخرى، لا تتسبب إلا في نزًر يسير من الخسائر المناخية التي تكبدنا إياها أنظمة تكييف الهواء. فنحو 80% من الانبعاثات المناخية الناجمة عن وحدات تكييف الهواء القياسية ينتج من طاقة تشغيل هذه الأجهزة، بحسب ما يفيد نيهار شاه مدير البرنامج العالمي لكفاءة أنظمة التبريد من مختبر لورانس بيركلي الوطني الأمريكي. لذا، انصب الكثير من الأبحاث مؤخرًا على تعزيز كفاءة طاقة وحدات ضغط الهواء ومبادلات الحرارة في تصميمات وحدات تكييف الهواء القياسية. أما الأبحاث الأكثر طموحًا، فقد جعلت نصب تركيزها الحد من دور هذه الوحدات في المقام الأول.
تعمل وحدات تكييف الهواء القياسية على تبريد الهواء بالتزامن مع نزع الرطوبة عنه، من خلال آلية تفتقر نسبيًا إلى الكفاءة، فبحسب ما يفيد شاه، من أجل تكثيف الماء من الهواء، تفرط هذه الوحدات في تبريد الهواء إلى حد يتجاوز ذلك الذي يحقق الراحة. من ثم، يسعى كثير من التصميمات الحديثة إلى فصل عملية نزع الرطوبة عن عملية التبريد، وهو ما يغني عن الحاجة إلى فرط تبريد الهواء.
على سبيل المثال، تنزع بعض وحدات تكييف الهواء الحديثة الرطوبة من الهواء من خلال مواد ماصة للرطوبة (تشبه جل السليكا في العبوات، والذي قد تجده في أكياس اللحوم المجففة أو قنينات الأقراص الدوائية). بعدئذ، يمكن تبريد الهواء المجفف الناتج إلى درجة حرارة أكثر ملاءمة. وهي عملية قد تتطلب بعض الطاقة الإضافية لأن المواد الماصة للرطوبة، تحتاج إلى "إعادة شحذها" باستخدام الحرارة. غير أن بعض الشركات، مثل شركة «ترانسايرا» Transaera الناشئة في مدينة سمرفيل بولاية ماساتشوستس الأمريكية تعيد تدوير الحرارة التي تُستحدث مع عملية التبريد لشحذ المواد الماصة للرطوبة من جديد. وتزعم الشركة أن نظامها هذا الذي لا يزال قيد التطوير قد يوفر 35% من الطاقة التي تستهلكها وحدات تكييف الهواء القياسية في المتوسط.
كذلك يمكن لوحدات تكييف الهواء الوصول إلى كفاءة أكبر إذا اقترن فيها نزع الرطوبة بتقنية تعرف باسم التبريد البخري، وهو ما يحذف تمامًا من المعادلة عملية كثيفة الاستهلاك للطاقة تُعرف باسم ضغط البخار. وضغط البخار هو نظام تستخدمه وحدات تكييف الهواء القياسية، ويعمل على نقل مادة التبريد في دورة يتفاوت فيها تكثفها وتمددها، وهو ما يسمح بامتصاص الحرارة إلى داخل المادة وإطلاقها إلى خارجها. على النقيض، يتسم التبريد البخري بأنه أكثر بساطة. وهو يستخدم العملية نفسها التي يُهدئ بها التعرق درجة حرارة الجلد. فخلال تلك العملية، يمتص الماء الحرارة مع تحوله من سائل إلى غاز. وأجهزة التبريد الصحراوي، وأجهزة التبريد التي قد نرتجلها بتسليط هواء مروحة على قطعة ثلج، تسلك آلية العمل نفسها. وفي المناخات الجافة، استمر استخدام التبريد البخري لآلاف السنوات. على سبيل المثال، في إيران القديمة، صُممت اليخجالات وهي مخازن فخارية تشبه الأقماع، ذات مدخنة تستخدم طاقة الشمس، أفادت من دوران الهواء وتبخُر المياه المجاورة لخفض درجة الحرارة إلى حد أنه أمكنها صنع الجليد في الشتاء وحفظه طوال أشهر الصيف.
غير أن هذه الاستراتيجية ترفع أيضًا درجة رطوبة الهواء، ومن ثم فإن نجاعتها عند استخدامها كنظام تبريد لا تتحقق إلا في المناخ الحار والجاف. أما إن ارتفعت درجة رطوبة الهواء عن نقطة معينة، تنتفي الراحة التي تتحقق مع انخفاض درجة الحرارة. وسعيًا إلى حل هذه المشكلة، صممت فرق بحثية، من بينها فريق مؤسسة «سي سناب»cSNAP ، التابع لجامعة هارفارد، أجهزة تكييف هواء تستخدم حاجزًا طاردًا للماء لتحقيق تبريد بخري كابت للرطوبة، دون استخدام مواد التبريد المعتادة التي تكون في الأغلب من غازات الدفيئة وأقوى ضررًا من عاز ثاني أكسيد الكربون، الأمر الذي يحقق مزية إضافية. وعن آفاق هذا الابتكار، يقول جوناثان جرينهام، الأستاذ المساعد المتخصص في التصميم المعماري من جامعة هارفارد، والذي شارك في تصميم هذه الأجهزة: "نتوقع أن يكون بمقدورنا توفير أجهزة تكييف هواء أكثر كفاءة في استهلاك الطاقة بنسبة 75%".
في الوقت ذاته، تجري شركة «بلوفرونتيير» Blue Frontier الكائنة في فلوريدا تجارب لاختبار أداء أنظمة تكييف هواء تجارية تعتمد على مواد ماصة للحرارة (تتمثل هنا في محلول ملحي) واستخدام تقنية التبريد البخري. ويعمل هذا التصميم على تجفيف الهواء ثم توزيعه على تيارين متجاورين، بحسب ما يوضح دانييل بيتس، المدير التنفيذي للشركة. أحدهما يُبرد فيه الهواء مباشرة من خلال إعادة إدخال الرطوبة إليه واستخدام البخر لخفض الحرارة أثناء التحول من سائل إلى غاز، وفي الآخر، يُحتفظ بجفاف الهواء من التيار الأول، الذي يُبرد بسحب البرودة وليس الرطوبة منه من خلال تمرير الهواء عبر جدار من الألمونيوم الرقيق. بعدئذ، تُمرر المادة الماصة للحرارة عبر مضخة حرارة ليعاد شحذها. وللوصول بأداء هذه المنظومة إلى أقصى كفاءة ممكنة، يُمكن تشغيل مضخة الحرارة ليلًا، في الوقت الذي يبلغ فيه الضغط على شبكة الكهرباء أدنى مستوياته، لتُختزن المادة الماصة للحرارة بعدئذ لاستخدامها خلال الجزء الأشد حرًا من اليوم. وبناءً على تجارب الشركة الميدانية، يقول بيتس: "نتطلع إلى تحقيق انخفاض في استهلاك الطاقة بنسبة تتراوح ما بين 50%، و90%".
غير أن أنظمة تبريد شركة «بلو فرونتير» وشركة «سي سناب» وشركة «ترانسايرا» لا يزال يتعين عليها الانتقال من طور التجريب إلى السوق. وتتوقع الشركات الثلاثة مرور عامين على الأقل قبل أن يمكن طرح هذه الابتكارات تجاريًا. وحتى عندئذ، يُتوقع أن تجِد عقبات قد تعترض حلول هذه الأنظمة الجديدة محل أنظمة التكييف التقليدية، من أمثلتها ارتفاع تكلفة تصنيع وتركيب هذه الأنظمة، والجمود الصناعي والسياسات التي تشجع على إعطاء الأفضلية للأنظمة الأقل تكلفة على حساب الأكثر كفاءة.
فحتى مع توفُر بعض من أفضل التقنيات، قد لا تكفي المكاسب على صعيد استهلاك الطاقة وحدها لمعادلة أثر الإقبال المتزايد على استخدام أجهزة التكييف، وهو إقبال يتوقع أن يكون شاسع النطاق. فحسبما يفيد شاه، في أكثر السيناريوهات تفاؤلًا، تتوقع وكالة الطاقة الدولية أن تتطلب أنظمة التبريد على مستوى العالم كمية أكبر بمقدار يزيد على نصف مقدار الطاقة المستهلكة حاليًا في غضون الخمسة وعشرين عامًا المقبلة بسبب تنامي الطلب على هذه الأنظمة. ولن يكون من المجدي عندئذ الاكتفاء باستخدام أجهزة تكييف أكثر كفاءة بدلًا من تلك القائمة، بل يتطلب بناء مستقبل أقل احترارًا الاستعانة باستراتيجيات أكثر تقبلًا للواقع، تعتمد على تخطيط العمران والمباني وتصميمهما بما يقلص الحاجة لأنظمة التبريد في المقام الأول. ويوضح شاه وميراندا أن جميع الحلول ستكون طرفًا حاسمًا بالمعادلة، من زراعة المساحات الخضراء والاستفادة من المسطحات المائية في المدن، واستخدام النوافذ الحاجبة للضوء وتصميم المباني تصميمًا يتيح استغلال التدفق الطبيعي لتيارات الهواء ومواءمة تصميمها لتكون أقدر على عزل الحرارة، واستخدام الألواح العاكسة الطاردة للحرارة.
ختامًا، تقول سنيها ساتشار، وهي خبيرة في كفاءة أنظمة الطاقة من المنظمة غير الربحية «كلايمت ووركس» ClimateWorks ، "التخفيف من وطأة الاحترار هو تحد على أصعد عدة، وما من استراتيجيات أو حلول مفردة شافية ها هنا". إذ نحتاج للجمع بين بناء عمران ومدن أفضل، وتحسين التقنيات والوعي بدرجة أكبر إلى أن التكلفة الحقيقية لأنظمة تكييف الهواء تتجاوز فواتير الكهرباء. ما تؤكده ساتشار قائلة: "أيما إجراء نتخذه في جزء من العالم، ينعكس على البيئة العالمية بأسرها".
doi:10.1038/nmiddleeast.2023.215
تواصل معنا: