رحلة باحثة بين محطات حقل دراسة التكاثفات
04 December 2024
نشرت بتاريخ 21 سبتمبر 2014
مع جلب الحرب أضرارًا وأمراضًا مريعة، يقاتل العدد القليل المتبقي من العاملين في الشأن الصحي في سوريا ضد المخاطر للعناية بالناس اليائسين.
صَمَتَ عويل سيارة الإسعاف التي تحمل علامة رصاصة مع توقفها خارج مستشفىً في حلب، بعد أن كان صوت صفارتها يزعق بحدة. قفز منها شخصان وفتحا الباب الخلفي، ليسحبا طفلين تغطيهما الدماء، لا يزيد عمرهما على ثماني سنوات، بعد أن وقعا ضحية لغارة جوية على مكان قريب. ومع إدخال المريضين بسرعة إلى المستشفى، بقي أقاربهما خارجه، متعاضدين بقوة. انهمرت الدموع على وجه والدة أحد المصابين وهي تمسك بملابس طفلها الممزقة.
أما والدة الطفل المصاب الآخر فكانت تخضع لعملية جراحية بعد أن أصيبت في أثناء الغارة.
وكما هي حال معظم المرضى الآخرين هنا وفي المستشفيات الأخرى، يجري توصيل الأطفال من قبل متطوعين تلقوا تدريبًا طبيًّا عمليًّا أوليًّا لمساعدة النظام الطبي في التعامل مع الموجات المتعاقبة الهائلة من ضحايا الحرب.
داخل المستشفى، حلّت أكياس الرمل محلّ النوافذ، وتوزّع طلاب الطب والشبّان والجنود وانطلقوا لمساعدة المرضى. وحلّت أجهزة الراديو محل الهواتف المحمولة بحسبانها الشكل الوحيد الآمن للتواصل بين أفراد الطاقم الطبي الذين عادة ما يكونون هدفًا للهجمات.
في إحدى الزوايا، يستلقي رجل مسنّ على نقّالة متألمًا في أثناء محاولة صبيّ يافع -يرتدي ثوب الجراحة الطبية وصندلاً أخضر اللون- تضميدَ ساقه المكسورة. أطلق سيلاً من أقذع الشتائم عندما بدا جميع أصدقائه عاجزين لا حول لهم ولا قوة. لقد تحول ابن السادسة عشرة من تلميذ عادي إلى مساعد طبي.
عائلته هربت الى تركيا، ولكنه قرر البقاء في حلب: "أريد أن أكون مثل الأطباء الأكبر سنًّا، أساعد الناس وأعالجهم هنا"، كما يقول. "والدي يتصل بي كل يوم للتأكد من سلامتي".
على مدى السنوات الثلاث الماضية، تمكنت الحرب الأهلية في سوريا من القضاء تقريبًا على نظام الرعاية الصحية في البلاد. وقُتِل عشرات الأطباء والممرضين وأطباء الأسنان والصيادلة والمساعدين الطبيين، أو فروا إلى بلدان مجاورة، مما سبّب فجوة كبيرة في الخبرة والتجربة. من بين 6,000 طبيب كانوا يمارسون المهنة في حلب -أكبر مدن سوريا التي كان يبلغ عدد سكانها قبل الحرب 2.5 مليون نسمة– تبقى عدد يقدره الأطباء المحليون بـ33 طبيبًا فقط.
من بين مالئي الفراغ هناك العديد من غير المجازين. بعضهم كان من طلبة الطب قبل الحرب، ولكن الآخرين كانوا يتخصصون في القانون أو الهندسة.
ليس أمامي خيار سوى البقاء. لم يتبقّ منا إلا أقل القليل. إنها بلادي، مدينتي، كيف يمكنني أن أغادرها؟
كان هناك 4,800 صيدلاني يمارسون المهنة في حلب، لم يتبقّ منهم سوى اثنين فحسب، وفقًا لقول العاملين في المستشفى. كما تبقى عدّة أطباء أسنان من أصل 1,500.
يخشى الأطباء العاملون في حلب من الانتقام بسبب مساعدتهم للمتمردين، مما يدفعهم لاستخدام أسماء مستعارة، في حين جرى نقل العديد من المستشفيات إلى مواقع جديدة لحمايتها من الهجمات. ولا تُعرَض أي صور لوجوه الأطباء خارج المستشفيات.
هناك ما يبرّر الخوف والحذر؛ فحسب تقرير مايو من قبل أطباء من أجل حقوق الإنسان (PHR)، كان هناك 150 هجومًا على 124 مرفقًا طبيًّا مختلفًا في جميع أنحاء سوريا بين مارس 2011 ومارس 2014. ويقول التقرير إن 90% من هذه الهجمات قد نُفِّذت من قبل القوات الحكومية السورية.
في حين أسهمت البراميل المتفجّرة في تدمير العديد من المستشفيات في حلب والمناطق الريفية المحيطة بها، فإن عددًا آخر من المستشفيات قد هُجر بشكل رئيسي نظرًا لعدم وجود طاقم طبي فيها.
"تعتقد زوجتي دائمًا [عندما أزورها في تركيا] أنها ستكون آخر مرة أراها فيها"، قال أحد الجراحين وهو ينظر من النافذة إلى المبنى المجاور المهدَّم. "ربما كانت على حق. إننا لا نعرف وحسب".
في أحد المستشفيات، يتناثر الحطام على امتداد الطابق العلوي، نتيجة للبرميل المتفجّر الأخير. الزجاج المهشّم يفرش أرضية ما كان عنبرًا في الماضي، في حين يتأرجح الباب معلّقًا على مفاصله.
"خلال الأشهر الثلاثة الماضية، وبسبب البراميل المتفجّرة، كنا نركز على إصابات الحرب"، قال أحد الأطباء في المستشفى، لا يريد الكشف عن اسمه لأسباب أمنية. "يجب أن تكون غرفة العمليات جاهزة لأي شيء. إننا نجري أنواع العمليات كافة التي لم نُجرِها قط من قبل، ولا نملك إلا الدعاء فحسب من أجل الأفضل".
هناك أربعة أسرّة في وحدة العناية المركزة، ولكنها لا تحتوي على جهاز للتنفس الصناعي، ومنذ بضعة أشهر فقط، كان هناك 20 طبيبًا، والآن لا يوجد سوى عدد قليل منهم. المستشفى نفسه يضم 25 سريرًا، وإمدادات الدم تعاني نقصًا حادًّا.
بالعودة إلى المستشفى الذي أُدخل إليه الطفلان بعد الضربة الجوية، يقول محمد -الجراح الذي أجرى الجراحة لأحدهما-: إن هذا الأمر يتكرر كل يوم. "في بعض الأيام أجري 13 عملية. ليس أمامي خيار سوى البقاء. لم يتبقّ منا إلا أقل القليل. إنها بلادي، مدينتي، كيف يمكنني أن أغادرها؟".
نقل محمد أسرته إلى لبنان حفاظًا على سلامتهم. "أرى عائلتي مرة كل شهرين. إنه لأمر صعب ولكن لا بد لي من القيام بهذا العمل. إذا وجدَنا النظامُ هنا فسيقتلوننا جميعًا".
إن القلة المتبقية من الأطباء في حلب مصابة بالإحباط بسبب فرار عدد كبير من زملائهم. "لست في موقع يتيح لي أن أطلق أحكامًا على الأطباء الذين غادروا، ولكن كيف استطاعوا المغادرة؟ الناس هنا تناضل، تموت، من العار أن يغادروا"، وفقًا لقول واحد من آخر أطباء الأسنان الذين بقوا في حلب.
"قد لا أكون أؤدي أكثر الأعمال أهمية، ولكني لن أغادر مدينتي. إذا أتت امرأة حامل وهي مصابة بخرّاج، ستكون عندها بحاجة لعلاج عاجل"، حسبما يقول.
تشكّل ندرة المستلزمات الطبية عقبة رئيسية أمام توفير الرعاية الصحية في حلب. في مصنع متهاوٍ سيئ الإضاءة في شرق حلب، يعمل الكيميائي الحيوي عبد الـ... -الذي أراد إخفاء اسمه الكامل– في تعبئة صناديق بالإمدادات الطبية لكي يُصار إلى تسليمها إلى المستشفيات المتبقية في المدينة.
"كل الأمراض التي يمكنك تخيلها موجودة هنا: السل، وداء الليشمانيات، وشلل الأطفال"، كما يقول، مضيفًا أن فاشية التهاب المعدة والأمعاء قد انتشرت هنا بعد قطع إمدادات المياه عن المدينة لمدة 10 أيام. كثيرًا ما تُهرّب الإمدادات الطبية عبر الحدود التركية، وهي مهمة شاقة ومحفوفة بالمخاطر.
"إننا نعاني نقصًا حادًّا في مخزون الأدوية. تغطي منظمات المعونة 20% ممَّا هو مطلوب هنا. ليس لدينا ما يكفي من الإنسولين أو أدوية التخدير، ولا يمكننا شراء أدوية التخدير من دول أخرى دون الحصول على إذن من الحكومة. تركيا هي الدولة الوحيدة التي ساعدتنا".
أدى تفشّي شلل الأطفال في سورية بعد 14 عامًا من خلوّها تمامًا من شلل الأطفال إلى قرع أجراس الإنذار في جميع أنحاء المجتمع الطبي الدولي. الأطفال والرضع يجب تطعيمهم، ليس ضدّ شلل الأطفال فحسب، كما يقول الأطباء، بل ضدّ أمراض أخرى لا حصر لها، من ضمنها السل والتهاب الكبد والكزاز والحصبة الألمانية والحصبة والنكاف والتيفوئيد.
"إننا بحاجة إلى برنامج كامل، وهذا الأمر لا يحدث وحسب"، استنادًا إلى قول طبيب يعمل في حملة التطعيم ضد شلل الأطفال.
الأطباء قلقون أيضًا إزاء ارتفاع عدد إصابات السل. ويقدّرون أن أكثر من 400 شخص في مدينة حلب مصابون بهذا المرض وهم دون علاج.
بالإضافة إلى الأمراض الجسدية البيّنة، هناك نسبة كبيرة من الأشخاص منسية إلى حد كبير ممن يعانون أمراضًا ذهنيّة. لا توجد أدوية متاحة للأمراض النفسية في حلب، كما يقول عبد الـ..، والمركز الوحيد المجهز لاستقبال المرضى موجود في مدينة إعزاز، التي تبعد حوالي 30 كيلومترًا عن حلب، على مقربة من الحدود التركية.
ومع عدم وجود نهاية مرتقبة في الأفق لأهوال الحرب، يبقى العاملون في الحقل الطبي هنا متحدين في التزامهم بخوض هذه المعركة حتى النهاية.
doi:10.1038/nmiddleeast.2014.233
تواصل معنا: