Using AI to control energy for indoor agriculture
30 September 2024
هل تقف أزمة مناخية وراء انهيار دولة الحيثيين؟
Published online 2 مارس 2023
يُظهر تحليل لعيّنات من حلقات نمو شجر العرعر من وسط تركيا، إلى جانب أنواع أخرى من تحليل البيانات، أن قحطًا مدمّرًا وقع بين عامي 1198 و1196 قبل الميلاد قد ساهم في زوال الدولة الحيثية.
قرابة عام 1300 قبل الميلاد، سادت منطقةَ شرق البحر المتوسّط إمبراطوريّات وممالك قويّة (الحيثيون، والآشوريّون، والمصريّون القدماء، والموكيانيّون). وبالاطلاع على ما بلغنا من تاريخهم المدوَّن، يتولَّد لدينا انطباع بوجود عالم مترابط مزدهر آنذاك. إلا أننا، بقفزة زمنية إلى الأمام، نجد أن تلك الدول نفسها وقعت في مأزق كبير بحلول عام 1170 قبل الميلاد. ويقدّم شتورت مانينج وزملاؤه1، في دراسة نشرتها دورية Nature، دليلًا على أن منطقة وسط تركيا قد ضربها قحط شديد، في إشارةٍ إلى أن أزمة مناخيّة وقفت وراء زوال الإمبراطورية الحيثية، أو كانت سببًا رئيسًا في زوالها.
بحلول عام 1170 قبل الميلاد، كانت المنظومتان السياسيّتان للحيثيين والموكيانيّين قد تفكّكتا، وتراجعت حدود بلاد آشور ومصر لتقتصر على منطقتيهما الأساسيّتين. وتمثّل هذه الواقعة نهايةَ مرحلة في التاريخ الغابر لغربيّ آسيا (العصر البرونزي الذي امتدّ تقريبًا بين عامي 3000 و1180 قبل الميلاد) وفاتحةَ مرحلة أخرى (العصر الحديدي الذي امتدّ بين عامي 1180 و330 قبل الميلاد).
وقد كان سبب الفوضى التي عمَّت البلاد في نهاية العصر البرونزي مثارَ جدلٍ شديد بين العلماء، إذْ تنوّعت العوامل المتَّهَمة بذلك بين حدوث تغيّرات في تقنيات الأشغال المعدنية والحربية، وموجات الهجرة الضخمة، وغزوات تحالف بحري غامض يدعى «شعوب البحر»، والحروب التي وقعت بين الدول، والتغيّر المناخي، والمجاعات والأوبئة، فرادى أو في مجموعات. وأخذ الباحثون يتقبّلون فكرة أن جملةً من هذه العوامل – أو هي جميعًا – قد ائتلفَتْ معًا لتتسبّب في تقويض تلك الإمبراطوريات2.
ومع ذلك، ما زالت هناك أسئلة كثيرة عن الشرارة الأولى: هل تسبّب التغيّر المناخي في مجاعة، أدَّت بدورها إلى اشتعال نيران الحرب؟ هل تسبَّبت مجاعةٌ وقحطٌ في انتشار أوبئة شرّدت المجتمعات المحلية الصغيرة، أم أن هجراتٍ أفضت إلى تفشّي الأمراض؟ المشكلة تكمن في أن البيانات الأثرية في نهاية العصر البرونزي ليست من الدقة بحيث يمكن الاستناد إليها في تحديد أحداث من ذاك النوع، وهو ما يبقينا على غير بيّنة بشأن الترتيب الصحيح لتلك الأحداث، إنْ كانت قد وقعت أصلًا.
ويسهم بحث مانينج وزملاؤه إسهامًا مهمًّا في حلّ هذه المعضلة، لا بإثبات حدوث تغيّر مناخي كبير فحسب، بل وكذلك بتحديد تواريخه على وجه الدقة؛ وهو إنجازٌ لم يكن ممكنًا في السابق. فقد حلّل الباحثون أخشابًا لنوعين من شجر العرعر (Juniperus excelsa وJuniperus foetidissima) استُخرِجت من موقع جورديوم (Gordion) الأثري وسط تركيا، ودرسوا اثنتين من سماتها المتصلة بالماء.
أولًا، لمَّا كان شح المياه يعني نموًّا أقل للشجر، فإن حلقات النمو الأضيق في الشجر تشير إلى سنوات أكثر جفافًا. ثانيًّا، يقدم فحص عيّنات الشجر باستعمال وسيلة تدعى «تحليل نظير الكربون 13 المستقر» طريقةً لتحديد مراحل أكثر جفافًا باعتماد ما في العيّنات من قيمٍ أكبر من المعتاد للسمة النظيريّة «دلتا سي 13» (وهي مقياس لوفرة نظائر الكربون 13 نسبةً إلى نظائر الكربون 12). كما فحص المؤلّفون عيّنات من التغيّرات البنيوية التي تطرأ على مستوى الخلايا في حالات القحط الشديد. وتَرابُط نتائج هذه الأنواع من البيانات، ومقابَلتُها بالترتيب التاريخي السنوي المستمر لحلقات نمو الشجر الذي عُثر عليه في جورديوم في الفترة الممتدة تقريبًّا بين عامي 1775 و748 قبل الميلاد، قد مكّنا مانينج وزملاءه من تحديد تاريخ وقوع حالات التغيّر المناخي بدقة شديدة.
تشير النتائج التي توصَّل إليها الباحثون إلى أن الفترة الممتدة بين القرنين الثالث عشر والعاشر قبل الميلاد قد أظلَّتها ظروف أكثر جفافًا من المعتاد، وأن قحطًا شديدًا ضرب المنطقة بين عامي 1198 و1196 قبل الميلاد. وتتطابق هذه التواريخ مع الحقبة المضطربة المسجَّلة في آخر العصر البرونزي، وهي ذات صلة مباشرة بالإمبراطورية الحيثية.
بين عامي 1650 و1180 قبل الميلاد، على وجه التقريب، كان الحيثيون يسيطرون على مساحة متسعة من الأراضي التي يُشار إليها اليوم بتركيا وسوريا، في حين ظلّت دائمًا الهضبة المركزية من شبه جزيرة الأناضول (التي تمثّل الجزء الأكبر من الأراضي التركية اليوم) أرضهم الأساسية، ومن ضمنها عاصمتهم خاتوشا (الواقعة على مقربة من مدينة بوغاز قلعة في العصر الحالي). وربما كان القحط الذي دام ثلاث سنوات أحد أهم الأسباب – إنْ لم يكن السبب الأهم – لتفكك دولة الحيثيين إلى غير رجعة.
وكما يوضح مؤلّفو الدراسة، فإن وسط الأناضول منطقةٌ قاحلة معرضة للقحط. والجماعات التي تعيش في بيئات من هذا النوع تطوّر آليّاتٍ للتكيّف مع السنوات التي تكون فيها الأمطار أقل من مستواها الأمثل؛ ودليل ذلك صوامعُ الحبوب الضخمة التي نجدها عنصرًا ثابتًا في المدن الحيثية المركزية، وإنشاءُ مشاريع كبرى لمرافق المياه (الشكل 1)، ومنها السدود، وقد ازداد إنشاؤها زخمًا خلال القرن الثالث عشر قبل الميلاد.
--------------------------------------------------------------------------------------------------------------
الشكل 1 | كتابة منقوشة من مدينة خاتوشا، عاصمة الدولة الحيثية، الواقعة في تركيا. تُظهر الكتابة تفاصيل الانتصارات العسكرية للملك سوبيلوليوما. وتوجد هذه الكتابة في مجمّعٍ يشمل الأحواض الشرقية، وهو موقع أساسي لخزّانات المياه وأداء الطقوس الدينية. ويوفّر شتورت مانينج وفريقه دليلًا على وقوع قحطٍ ممتد بين عامي 1198 و1196 قبل الميلاد، لعله أسهم في انهيار دولة الحيثيين وإخلاء عاصمتهم
--------------------------------------------------------------------------------------------------------------
من غير الشائع أن تستمر حالة القحط أكثر من سنتين متعاقبتين، وهي ما يصفه مانينج وزملاؤه بأنه أمرٌ خطير، خليق بإحداث نقطة تحوّل في الجهود التي بذلتها المجتمعات للتكيّف مع الظروف واستعادة عافيتها بعد كل انتكاسة. ومع أن واضعي الدراسة يتفادون التصريح بوجود علاقة سببية مباشرة بين هذا التغيّر المناخي الشديد وبين انهيار دولة الحيثيين، فإنهم يؤكّدون أن القحط الذي وقع بين عامي 1198 و1196 كان عاملًا حاسمًا، لعله دفع الإمبراطورية أولًا إلى استغلال بيئتها استغلالًا جائرًا، للحفاظ على وجودها، فألحقت أضرارًا طويلة الأمد بالمنظومات الحيوية لبيئتها، وربما دفعها أخيرًا إلى إخلاء مدنها المركزية، ومن بينها خاتوشا.
ومن بين الألغاز الكثيرة التي حيّرت دارسي حضارة الحيثيين، إخلاءُ خاتوشا خلال العقود الأخيرة من تاريخ الإمبراطورية الحيثية. يبدو أن هذا الإخلاء قد تمَّ بتخطيطٍ محكَم، لأن جميع أبنيتها أُفرِغت من المتعلقات الثمينة، وهو ما يوحي بأن العائلة المالكة انتقلت إلى مدينة أخرى3. وبغياب دليل أثري على أن المدينة نُهِبت نتيجة حربٍ أو غزو، فإن أسباب إخلاء خاتوشا كانت مثار جدل، وعُدَّت التغيّراتُ المناخية وحالاتُ القحط الناجمة عنها بين الأسباب المرشّحة. ولم تستطع التخمينات أن تتعدّى وجود ارتباط عام بين الظروف المناخية، التي كانت مواتية في أثناء نشوء وصعود الإمبراطورية الحيثية، وكانت خلاف ذلك في قرونها الأخيرة4.
وتُعَـدّ دراسةُ مانينج وزملائه دراسة رائدة، لأنها تعطينا أخيرًا دليلًا ملموسًا على سبب إخلاء خاتوشا. وقد تُظهر البحوث المستقبلية ما إنْ كانت الظروف المناخية القاسية التي أظلَّت المنطقة بين عامي 1198 و1196 قبل الميلاد محصورة في وسط الأناضول، أم أنها كانت ظاهرة أكبر على مستوى شرق حوض البحر المتوسط، بحيث يمكنها أن تقدّم تفسيرًا يتجاوز حالة الحيثيين.
أمَا وقد علِمنا أن واقعة مناخية ضخمة هي ما ربما دفعت الإمبراطورية الحيثية إلى أبعد من نقطة اللاعودة، فحريٌّ بنا أن نطرح مزيدًا من التساؤلات عن التغيّر المناخي، ووطأته على الدول والمجتمعات. وفي القلب من تلك التساؤلات سؤالٌ عن الدروس التي يمكن أن نستقيها من الماضي لنفيد منها في خضمِّ أزمتنا المناخية الراهنة. ثمة نقطة يُبرزها النموذج الحيثي بجلاءٍ لا مزيد عليه: وهي أن المنظومات السياسية والاقتصادية الممتدة تكون هشّة بوجه خاص في مواجهة الظواهر المناخية العنيفة. وعندما تنهار منظومات من هذا النوع، تصبح المراكز الحضرية الكبيرة غير مستدامة؛ وهو ما يثير تساؤلاتٍ عما إنْ كانت يومًا قادرة على البقاء حقًّا. وبالانحسار الحضري، تحظى المجتمعات المحلية الصغيرة بفرصة أخرى للعيش في وحدات سكنية أصغر، محاوِلةً التعايش مع بيئاتها، والأخذ بطريقة أكثر استدامة، من موارد أكثر تنوُّعًا، وبكميّات أكثر ترشيدًا.
علينا أن نسترشد بقراءة علماء الآثار للماضي في التفكير بمسارات بديلة ممكنة للسكن البشري، دون الوقوع في فخ رسم صورة حالمة لحياة الدَّعَة في الريف، أو إغواء شيطنة حياة المدينة على جملتها. ولن يكون هذا بالاكتشاف الجديد الذي يثير الدهش أو العجب؛ ألم تكن البيئات الحضرية التي تمخَّضت عن الثورة الصناعية وتداعياتها – بما يميّزها من توسُّع سريع لا يُراعي الاعتبارات الصحية – سببًا في إثارة ردود أفعال مختلفة، تنوّعت بين النماذج المبنيّة جزئيًّا، مثل مدن الحدائق التي رسمها المخطّط الحضري الإنجليزي، إيبنيزر هاورد، وبين المدن الطوبائيّة، مثل مدينة «بروديكر سيتي» Broadacre City التي رسمها المعماري الأميركي، فرانك لويد رايت؟ وكان هاورد قد دعا إلى المزاوجة بين حياة المدينة وحياة الريف، بإنشاء مدن صغيرة محاطة بأحزمة خضراء، ومناطق زراعية، وصناعات مستدامة، في حين أن لويد رايت كان من أنصار نموذج لا يسمح بتملُّك الأراضي من قِبل شخصيّات اعتبارية أو شركات؛ نموذجٍ يرتكز فيه الإنتاج على المساكن المستقلة وملحقاتها.
ومع أن المنظومات الحضرية الريفية المستدامة كانت محطّ نقاش دام قرونًا، فقد حلّت محلّ هذه الخيارات المدنُ الكبرى الدائمة التوسّع التي تملؤنا بشعور زائف بالاستقرار. وقد آن الأوان لعدم الاكتفاء بالحلم، وأن نسعى بالفعل إلى إنشاء مدن ببصمات كربونية أخفّ، ومساكن متباعدة، وتوزيع متوازن بين ما هو حضري وما هو ريفي.
موجه دوروسو-تانريوفر: باحثة في قسم تاريخ الفن بكلية تايلر للفن والعمارة بجامعة تمبل، الواقعة في مدينة فيلادلفيا بولاية بنسيلفانيا، الرمز البريدي: 19122، الولايات المتحدةالبريد الإلكتروني: mugedurusu@temple.edu
يُقر المؤلفون بعدم وجود تضارب في المصالح.
نُشر هذا المقال في نسخته الإنجليزية على شبكة الإنترنت في الثامن من فبراير 2023.
doi:10.1038/nmiddleeast.2024.6
1. Manning, S. W., Kocik, C., Lorentzen, B. & Sparks, J. P. Nature 614, 719–724 (2023). 2. Cline, E. H. 1177 B.C.: The Year Civilization Collapsed (Princeton Univ. Press, 2021). 3. de Martino, S. in The End of Empires (eds Gehler, M., Rollinger, R. & Strobl, P.) 82 (Springer, 2022). 4. Schachner, A. in Handbook Hittite Empire: Power Structures (ed. de Martino, S.) 167 (De Gruyter, 2022).
Stay connected: