مقالات

25 عامًا على نوبل.. أحمد زويل من دمنهور إلى إستكهولم

Published online 10 أكتوبر 2024

قلت للأستاذ جمال الغيطاني: أريد مساعدتك في أن يكتب الأستاذ نجيب محفوظ مقدمة كتاب الدكتور زويل «عصر العلم».. حتى يلتقي صاحبا نوبل في كتاب واحد

بقلم: أحمد المسلماني

الدكتور أحمد زويل
الدكتور أحمد زويل
Douglas A. Lockard©Science History Institute Enlarge image

كانت هدى نجيب محفوظ ترتشِف سطح القهوة كأبيها وهي تقول: هل تعلم أن والدي التقى الدكتور أحمد زويل قبل حصوله على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1999، وكان ذلك مصادفةً في أحد فنادق القاهرة، حيث كانت أختي فاتن بصحبة والدي، فسأل والدي شقيقتي: هل تعرفين مَن هذا؟ قالت: لا، قال: هذا الدكتور أحمد زويل.. إنه عالِم كبير، سوف يحصل على جائزة نوبل في العلوم.

كنتُ أستعدُّ في ذلك الصباح الخريفي الصافي وسط القاهرة لكي أُسلِّم نجلة الأديب العالمي نجيب محفوظ وسام اتحاد كتاب أفريقيا وآسيا الذي أتولى أمانته العامة، وذلك في إطار مبادرة أطلقها الاتحاد بعنوان "أبناء وأحفاد"، وذلك لتكريم عائلات كبار المبدعين الذين لا يكتفون بكوْنهم ورثةً ماليين بل يعملون كحُماة ثقافيين، وحرّاس فكريين.

ولقد رويتُ بدوري قصة اللقاء الأهم الذي جمع الدكتور زويل بالأستاذ نجيب محفوظ، وذلك بمناسبة كتابة الأديب العالمي تقديمًا لمذكرات الدكتور أحمد زويل، التي نشرها في كتاب بعنوان "عصر العلم"، وهو واحدٌ من أروع كتب السيرة الذاتية.

كنتُ مع الدكتور زويل في السودان، وهناك التقينا الرئيس السوداني عمر البشير، وأنهينا الفصل الأخير من الكتاب، وهو حوار فكري دار بيني وبين الدكتور زويل.. سألني الدكتور زويل: متى يمكننا تسليم الكتاب إلى المهندس إبراهيم المعلم في دار الشروق، لقد وعدته بأن ذلك سيكون قريبًا، قلتُ: لم يبق إلاّ القليل، وسوف يتبقى مَن نختاره ليقوم بتقديم الكتاب، قال لي الدكتور زويل: ولماذا لا تقوم أنت بكتابة المقدمة، فأنتَ محرر الكتاب، وتعرف كل ما يلزم عن سيرتي، ثم إنك تعرف والدتي وأخواتي، وزوجتي وأبنائي، وقد زرتَ معي عدة دول في أربع قارات على مدى سنوات، تحدثّنا خلالها مئات الساعات.

قلت له: ليس من المناسب أن أقوم بتقديم كتابك، فأنتَ حائز على نوبل، والأكثر ملاءمةً أن يقوم الأستاذ نجيب محفوظ بذلك، بينما سأكتب أنا "مقدمة المحرر".

لقد كتبت جوانب عن اللقاء التاريخي الذي قمت بترتيبه بين الدكتور زويل والأستاذ نجيب محفوظ، ويطيب لي هنا استذكار سطور ممّا كتبتُ عن تلك "القمة الثنائية" رفيعة المستوى التي شهدها نيل القاهرة ذات يوم.

قلت للأستاذ جمال الغيطاني: أريد مساعدتك في أن يكتب الأستاذ نجيب محفوظ مقدمة كتاب الدكتور زويل "عصر العلم".. حتى يلتقي صاحبا نوبل في كتاب واحد.

بعد قليل.. طلب مني الأستاذ الغيطاني المجيئ إلى "فرح بوت" لعرض الأمر على الأستاذ، ذهبتُ إلى هناك في الموعد المحدد، ولم أكن –بالطبع– غريبًا على المكان ولا على مَن فيه.. لكنني هذه المرة قادم بهدف الحصول على "كلمة" من الأستاذ.

ما إنْ رآني الأستاذ نجيب محفوظ حتى قال: كيف حال أستاذنا أحمد زويل؟.. قلت له: بكل خير.. سيأتي لزيارتك.. قال: يمكنني أن أذهب أنا إليه.. قلت: هو يريد أن يأتي إليك، وربما يكون هنا بعد ساعة.

قال لي الأستاذ: وماذا عن كتاب "عصر العلم"؟.. قلت له: إن دكتور زويل كما تعلم قد توصّل إلى زمن جديد هو "الفمتوثانية"، وهي تعادل واحدًا على مليون على بليون من الثانية، وهو أدق زمن في تاريخ العلم.. وهو يعادل ما قدره ثانية واحدة في فيلم سينمائي يستغرق عرضه (36) مليون سنة!

ويعكف دكتور زويل الآن على دراسة الخلية بموجب هذا الزمن، فهو يدرس مكانًا متناهي الصغر بزمن متناهي الصغر.. يدرس ما دون الخلية بما دون الثانية.

والأمل من ذلك هو إحداث نقلة في الطب الجزيئي أو ما بعد الطب الحديث.. والتعامل مع المرض في لحظة تشكُّله.. أو التعامل في زمن ما قبل المرض.

فاجأني الأستاذ نجيب محفوظ بالقول: إذن فالدكتور زويل ينتقل من السيطرة على الزمان إلى السيطرة على المكان!

وقد ذهلتُ وذُهل الحضور من تلك الجملة الجامعة المانعة كما يقول أهل المنطق.. وقد قلت مبهورًا: هو هذا يا أستاذنا.. قال لي: إذن اكتُب.. سأُملِي عليك.

كتبتُ بخطّ يدي مقدمة نجيب محفوظ لكتاب "عصر العلم"، وقام الأستاذ بالتوقيع في نهاية الصفحة بخط يده.

كان نجيب محفوظ يُملِي عليَّ المقدمة كأنه يقرأ من كتاب.. وقد تشرفتُ كثيرًا بأنه ذكر اسمي في تلك المقدمة، وكثيرًا ما كنتُ أقول لأصدقائي بعد كتاب "عصر العلم": يمكنني أن أعتزل الآن وأكتب مذكراتي.. ذلك أن اسمي أصبح خالدًا في كتاب يحمل توقيع اثنيْن من حائزي نوبل.

جاء الدكتور زويل بعد ساعة.. وأصبح لقاء السحاب بين العملاقيْن.. وكأنه مشهد من خارج العصر.. بعضه من ماضٍ تليد، وبعضه من مستقبل بعيد.

كُنّا في لقاء قمة عالمي بين العلم والأدب.. قضيْنا مئة دقيقة في رحاب التاريخ.

 

عملتُ مستشارًا للدكتور أحمد زويل نحو عشرين عامًا، وذلك فور تخرجي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة حتى قبيل رحيله.. ولا يمكنني بالطبع احتساب عدد الساعات التي تحدثت فيها معه.. فقد زرت معه جامعات ومؤسسات ومطاعم ومقاهٍ.. داخل مصر وخارجها.. من القاهرة إلى أسيوط، ومن الغردقة إلى الإسكندرية.. ومن الرياض والدوحة وعمّان وبيروت.. إلى الخرطوم وتونس.. إلى بودابست وبوخارست وفيينا وباريس ومدريد.. ثم إلى نيويورك.

لقد مرت خمسة وعشرون عامًا على نوبل زويل، وكنتُ قريبًا منه وقت حصوله على الجائزة، وقبل الجائزة وبعدها.. وربما أكتفي في هذا المقام بالإشارة إلى عدد من المشاهد بهذه المناسبة الفريدة.

 

المشهد الأول.. فندق فورسيزونز القاهرة

ذات نهارٍ في بهو الفندق "تي جاردن" جاء الجرسون ليسأل: ماذا تطلبون؟ قال الدكتور زويل: "حلبة حصى، وأكثِر من الحبّ".

لم أتمالك نفسي من الضحك، قلت له: يا دكتور زويل.. هل تعتقد أن فنادق الفورسيزونز تقدم مشروب الحلبة، إنه مشروب عتيق، لقد غادر عالمنا قبل الحرب العالمية الثانية، وحتى في المقاهي الشعبية لن تجده بسهولة.

ضحك الدكتور زويل وقال ساخرًا: يبدو أنكم في "بسيون" قد أخذتكم الحداثة بعيدًا، لكننا في "دسوق" لا نزال كما كنّا، وصل المدير المسؤول في تلك اللحظة، وصافح الدكتور زويل وأمر بأن يكون مشروب الحلبة "كثير الحبّ" على قائمة طعام خاصة لصاحب نوبل.

كان من عادة الدكتور زويل أن يقول: إنني من دسوق، نحن في دمنهور، كنا في الإسكندرية.. بالقدر نفسه وربما أكثر من قوله: حين كنت في بنسلفانيا، لمّا وصلت باسادينا، نحن في جامعة كالتك، ولقد كان أجمل مديح محبّب إلى قلبه "ابن مصر البارّ".

 

المشهد الثاني.. نادي الجزيرة بالزمالك

يعرف عمّ محمد سائق الدكتور زويل طقوس يوم الجمعة جيّدًا، ففي الثامنة صباحًا يجب أن أكون واقفًا أمام باب منزلي لنذهب معًا إلى الدكتور زويل حيث ينتظرنا بملابس رياضية في بهو الفندق.. ثم نذهب معًا إلى نادي الجزيرة بالزمالك.

كان نادي الجزيرة قد منح العضوية الشرفية مدى الحياة للدكتور زويل، ومن المثير أن موظفة في وزارة الشباب والرياضة أرسلت تعترض لأن ذلك مخالف للائحة، ولمّا ردّ النادي أن ذلك استثناء من أجل العالِم الاستثنائي الذي رفع اسم مصر في سماء العلم.. لم تقتنع الموظفة، ورأت أنه لا يجب أن يكون هناك تمييز بين المصريين، وكان الحلّ القانوني.. هو أن اتخذ مجلس الإدارة قرارًا طريفًا يقضي بمنح عضوية نادي الجزيرة لكل مَن يحصل على جائزة نوبل!

كانت طعميّة النادي هي أول جدول أعمالنا، الفول الإسكندراني والطعمية المحشوّة والخبز البلدي والباذنجان المتبّل، يا لها من وجبة صباحية رائعة، بعد ذلك يبدأ الحديث في أمور جادّة أغلبها في السياسة الداخلية، ثم نشرع في المشي على "تراك" النادي.. ويكون الحديث سياسيًّا كذلك.. لكنه في السياسة الخارجية.

كان الدكتور زويل يسألني كأنني في مقابلة للتوظيف، ما رأيك في كذا وكذا.. من احتمالات التوريث في مصر إلى أزمة الشرق الأوسط، ثم إلى العلاقات العربية الغربية ومستقبل الإسلام السياسي، ولما قلت للدكتور زويل ذات مرة: يا دكتور.. أنا أجيب من واقع قراءاتي، ولكن يمكنك أن تسأل السيد عمرو موسى أو الدكتور محمد البرادعي.. وهما صديقان مقربان لك، وستكون الإجابات أوسع وأهم من الإجابات النظرية التي أمتلكها، وكان ردّه: ومَن قال لك إنني لا أسألهم في الموضوعات نفسها، وبالترتيب نفسه، وأسأل آخرين.. منهم ملوك ورؤساء وساسة كبار حول العالم، إنني كعالِم أفضِّل دراسة الظواهر من زوايا متعددة، ورؤى متباينة.

كانت جولات المشي في نادي الجزيرة تصل إلى ساعتين.. أربع ساعات بينهما استراحة واحدة أو اثنتيْن، وكان من رأي الدكتور زويل أن المشي يساعد في خلق الأفكار، وذات يوم قال لي: نحن في جامعة كالتك نفعل شيئًا رائعًا.. من أكثر الأشياء المحببة إلى قلبي، فنحن مجموعة من العلماء نحدد موعدًا منتظمًا، نذهب فيه إلى مكان رائع وسط الطبيعة، ومن دون أن يحمل أيٌّ منّا هاتفًا محمولًا أو ساعة يد.. ونبدأ في نقاش مفتوح طوال اليوم، دونما أي تدخل خارجي أو ضجيج محتمل، فنحن في عزلة علمية كاملة، نناقش قضايا نظرية في الفيزياء والكيمياء والرياضيات وفي الفلسفة والطب وعلوم الأحياء، إن هذه اللقاءات التي تتضمن الكثير من المشي أيضًا بين الطبيعة تشبه حالة سقراط وظاهرة المشائين في الفلسفة اليونانية، وهي لقاءات أشبه بالتزوّد بالوقود الفكري.. حيث يطَّلع كلٌّ منّا على ما يفعله زملاؤه من كبار العلماء في كل المجالات، قلت للدكتور زويل ضاحكًا: لا شك أن حواراتنا في ممشى النادي لا تقل أهميةً عن حواراتكم أنتم معشر العلماء!

 

المشهد الثالث.. إدارة الفراغ

إن من أهم ما تعلمت من الدكتور زويل آلية إدارة الوقت، وعلى نحو أدق إدارة ما يمكنني تسميتها "المتخللات الزمنية".. كتلك الأماكن الفارغة بين المباني مما يطلق عليها "المتخللات السكنية".

يبدأ الدكتور زويل رحلته إلى مصر من المنزل في باسادينا إلى الفندق على النيل، إنه يضع جدول أعمال لكل الرحلة، والأهم كل الفراغات، ففي الطريق من المنزل إلى مطار لوس آنجلوس يُجري مكالمات هاتفية جرى تحديدها سلفًا، وفي قاعة الانتظار بالمطار (اللاونج) يقرأ أشياء جرى اختيارها سابقًا، وفي الطريق إلى مطار فرانكفورت، حيث قضاء وقت الترانزيت، قبل استئناف الرحلة للقاهرة.. يراجع أبحاثًا علمية جادة كأنَّه في مكتبه تمامًا، وفي استراحة مطار فرانكفورت يقرأ أعمالًا ثقافية، ثم يواصل قراءتها حتى مطار القاهرة.

ولما كنتُ أستقبله في "لاونج" مطار القاهرة، كنت ألاحظ أنه قد خطّط أيضًا لوقت انتظار الحقائب، وهنا يفعل أمريْن أساسين: يمنح عدة دقائق لالتقاط الصور التذكارية لمَن يطلبون ذلك، ثم يمسك بصحيفة اصطحبها معه للاطلاع عليها في نصف الساعة المتبقية مع فنجان من القهوة.

في الطريق كان يسأل عن موضوعات تبدو عفوية لكنها لم تكن كذلك، وفي طريق العودة يمسك ورقة واحدة عليها أسماء وأرقام هواتف من أعضاء النخبة المصرية ومن أفراد عائلته ويبدأ الحديث إليهم بالترتيب الموجود على الورقة.

كان الدكتور زويل يقضي الكثير من الوقت في تناول الطعام المفضّل، وزيارة المقاهي ولقاء الأصدقاء، وكان ذلك كله يبدو لمَن يراه أنه لا يفعل شيئًا سوى أنه يذهب إلى النادي ويمضي إلى المطاعم ويلتقي أعدادًا كبيرة من العلماء والمسؤولين، ولكنه في الواقع كان يخصص وقتًا محدّدًا لذلك، حيث كان عظيم الاستثمار حتى يتحول الوقت المحدود إلى نموذج للزمن الكثيف، ففي ساعة واحدة يمكن أن ينجز ما ينجزه الآخرون في ساعات مديدة.

لقد ساعده على إنجازاته الكبرى في حياته ذلك النموذج في إدارة الفراغ، وكذلك ساعات نومه القليلة، حين كان يسهر بصحبة الأصدقاء حتى الثالثة فجرًا، ثم يستيقظ بعد السابعة، ويعطيني موعدًا في الثامنة صباحًا، وكنت مذهولًا من ذلك، ولكنه قال لي: إنني لا أنام أكثر من خمس ساعات في أي يوم، ربما أقل.. لكن ليس أكثر.

 

المشهد الرابع.. الصلاة على سجادة أمى

زرت عائلة الدكتور زويل في الإسكندرية مرات عديدة، كانت شقيقته "نانا زويل" هي الأقرب إليه، حيث كانت والدته تقيم معها ومع أسرتها، وكان الدكتور زويل محبًّا لزوج أخته الأستاذ مصطفى زويل الذي درس العلوم كذلك.

ذات يوم.. وبينما أنا جالسٌ في صالون المنزل مع الأسرة.. نادت والدة الدكتور زويل ابنها الحاصل على نوبل قائلةً: يا شوقي.. يا أحمد، اسم الدكتور أحمد زويل في الطفولة هو "شوقي".. وبالنسبة لي هذه هي المرة الوحيدة في حياتي التي سمعت فيها أحدًا يناديه باسمه مجردًا من لقب دكتور، ومن المثير أن دكتور زويل نهض سريعًا إليها، فقبَّلته وقالت له: عليك أن تأكل أفضل.. صحتك لا تعجبني، أكل أمريكا هذا ليس مفيدًا، أختك أعدت لك طعامًا، ثم قالت له: خذ معك بعض الطواجن إلى أمريكا.. قال لها: طبعًا.. سأفعل!

وفي مشهد آخر.. فرغت الوالدة من الصلاة، فجثا الدكتور زويل على ركبتيه وقبل رأسها ويدها ثم قدميها، ولمّا نهضت صلّى مكانها على سجادتها، ثم أكثر من الدعاء، كان المشهد مهيبًا ونبيلًا.. وخارج المعتاد.

 

المشهد الخامس.. أحمد زويل رئيسًا لمصر

في عام 2005 زرتُ لبنان مع الدكتور زويل، هناك التقيت للمرة الوحيدة فنانة لبنان الأولى السيدة فيروز، كما تعرفت على الأمير كريم الأغاخان.. وكان ثلاثتهم في حفل تسلّم الدكتوراة الفخرية من الجامعة الأمريكية في بيروت.

ضمن جدول الزيارة زرنا السيد سعد الحريري في قصر قريطم لأداء واجب العزاء في الرئيس رفيق الحريري، وزرنا سرايا الحكومة حيث استقبلنا رئيس الحكومة نجيب ميقاتي.

من طرائف الحديث في لقاء ميقاتي.. ما ذكره الدكتور زويل عن عالِم الرياضيات اللبناني العالمي البروفيسور مايكل عطيّة الذي درس في فيكتوريا كوليدج في الإسكندرية، ثم حصل على أعلى جوائز علم الرياضيات في العالم، قال الدكتور زويل لحكومة ميقاتي: لماذا لم يستفد لبنان من عالِم كبير بهذا الوزن الدولي، وكان ردّ الوزير طارق متري: لقد دعوناه بالفعل، وزارنا وأكلنا الحمص والتبولة، ثم لا شيء، للأسف لم يتجاوز جهدنا بروتوكول الاستقبال وكرم الضيافة.

في بيروت.. وبينما كنت أجلس مع الدكتور زويل على مقهى على شاطئ البحر، قلت له: ما رأيك في أن نعمل على أن تقوم بدور سياسي في مصر، وأن نعدّ العدة لكي تكون رئيسًا لمصر، إذا ما فكّر جمال مبارك في الترشح.. تترشح أمامه، ونخوض المعركة، وأنت علاقتك بالجيش جيدة، والمشير طنطاوي صديق لك، ووقتها يمكن أن تكون الفرصة سانحة.

من هذه اللحظة.. بدأنا.. أنا من جانبي، ثم بدأ هو أيضًا ولكن بعد سنوات.. الإعداد ليكون أحمد زويل رئيسًا لمصر، وهذه قصة طويلة، سآتي على تفاصيلها في كتابي القادم "الكيمياء والسلطة.. كنتُ مستشارًا لأحمد زويل".

 

المشهد السادس.. هنا سقارة

امتلك الدكتور زويل منزلًا رائعًا في منطقة سقارة بالهرم، ساعدته في إنشائه الإعلامية آمال فهمي مقدمة برنامج "على الناصية"، وقد جرى بناؤه على الطراز الإسلامي، وكانت تديره السيدة رويدا سعد الدين من الجامعة الأمريكية بالقاهرة.. حيث تأسست فيه "مؤسسة زويل للمعرفة والتقدم".

التقينا كثيرًا في ذلك المكان الرائع، وقد نجح الطبيب الشاب عمرو حتّة في توثيق الكثير من لقاءات سقارة، قال لي الدكتور زويل: إنه يريد أن يدعو بيل جيتس لمحاضرة في المؤسسة، كما أنه تحدث مع جوردون مور مؤسس إنتل، وإلياس زرهوني العالِم الأمريكي الجزائري الذي تولى أعلى منصب حكومي في الصحة الأمريكية.. لإلقاء محاضرات، لكن أحداث 2011 أدت إلى تغيير النظام، وجدول الأعمال، وعودة فكرة الرئاسة، ثم غيابها من جديد.

 

المشهد السابع.. نهاية الرحلة

أصيب الدكتور زويل بمرضه الأخير، وكان الدكتور محمد غنيم قد أدرك حقيقة المرض، وأبلغه بالسفر إلى أمريكا، كان الأمر صدمةً كبيرةً لي، إذ إنني عرفت بالخبر قبل أن يصل إلى وسائل الإعلام.. وحتى عائلته في مصر.

كنتُ قد ذهبت إلى قصر الاتحادية في تلك الحقبة، مستشارًا للرئيس عدلي منصور، وكان بعض الفتور قد حدث في علاقتنا قبيل ذلك، بسبب أمور سياسية تتعلق بمشروع ترشحه للرئاسة.

لكننا التقينا لاحقًا في لقاء وداع، في فندق فورسيزونز القاهرة بحضور العالم المصري الكبير الدكتور صلاح عبيّه، الرئيس التنفيذي السابق لمدينة زويل.

قال لي اللواء صلاح العزازي الذي كان مقربًا للغاية من الدكتور ويدير أعماله في مدينة زويل: كان الدكتور زويل يتصل بي، ويفتح شاشة الفيديو، لكي يرى شيئين: إلى أين وصلت الإنشاءات في مدينة زويل، وإلى أين وصلت الإنشاءات في مقبرة زويل، كان زويل يتابع جامعته ومقبرته في آنٍ واحد!

صمدَ الدكتور زويل في مواجهة المرض، كما صمد في كل معارك الحياة، ثم جاءت لحظة.. كان لا بد للفارس أن يترجّل، وللرحلة أن تنتهي.

انتهت رحلة زويل.. لكن رسالته لم تنتهِ.. كانت رسالة زويل في جملة واحدة، وكانت هي أيضًا وصيته لبلاده: العلم هو الحل.

doi:10.1038/nmiddleeast.2024.310