مقالات

نوبل كيمياء عامَ 1945.. الرجلُ الذي أطعمَ الحيوانات

Published online 27 ديسمبر 2023

بدافعِ الفضولِ النهم، شرعَ "فيرتانن" في السعيِ لكشفِ أسرارِ الحفاظِ على علفِ الحيوانات. أمضى ساعاتٍ لا تُحصى في مختبرِه، محاطًا بقواريرَ منَ السوائلِ الدوامةِ ورائحةِ الموادِّ الترابية. معَ كلِّ تجربة، اشتعلَ شغفُه أكثر، وباتَ تصميمُه وكأنَّه لا ينضُب.

 

محمد منصور

 

للأستماع للحلقة أضغط على هذا الرابط

Public Domain Enlarge image
في خطوطِ العرضِ الشمالية؛ كانَ على المزارعينَ إطعامُ الحيواناتِ الأكثرَ فائدةً في الشتاءِ بالأعلافِ المحفوظةِ مثلَ التبن. لكنْ، ولفترةٍ طويلةٍ كانَ التبنُ وحدَه غيرَ كافٍ للحفاظِ على الحيواناتِ في حالةٍ إنتاجيةٍ ممتازة. فلكي تُنتجَ حليبًا جيدًا؛ أو لحمًا بجودةٍ عالية؛ تحتاجُ الأبقارُ إلى علفٍ مركّز.

 

استخدمَ المزارعونَ في تلكَ الأوقاتِ أنواعًا منَ الأعلافِ المستوردةِ منَ البلدانِ الأكثرِ دفئًا. وقتَها؛ كانَ منَ الواضحِ أنَّ الاستبدالَ بهذه المنتجاتِ المستوردةِ منْ بلدانٍ أخرى موادَّ غذائيةً مصنعةً محليًّا منْ شأنِه أنْ يوفرَ مزايا اقتصاديةً ملموسةً للزراعة. 

في ريفِ فنلندا الخلاب، عاشَ رجلٌ يُدعى "أرتوري فيرتانن". كانَ الرجلُ يملكُ روحًا ساحرةً يغذيها سحرُ الطبيعةِ المحيطةِ به. وسْطَ الحقولِ؛ وجدَ الإلهام. وشعرَ بعلاقةٍ عميقةٍ بينَه وبينَ الحيواناتِ التي كانتْ تتجولُ بحريةٍ عبرَ المروج. كانَ يعتقدُ أنَّ مفتاحَ تغذيةِ تلكَ الحيواناتِ يكمنُ في الحفاظِ على العلف، إذ إنَّه القوتُ الذي يُمِدُّ تلكَ الكائناتِ بالطاقة. 

بدافعِ الفضولِ النهم، شرعَ "فيرتانن" في السعيِ لكشفِ أسرارِ الحفاظِ على علفِ الحيوانات. أمضى ساعاتٍ لا تُحصى في مختبرِه، محاطًا بقواريرَ منَ السوائلِ الدوامةِ ورائحةِ الموادِّ الترابية. معَ كلِّ تجربة، اشتعلَ شغفُه أكثر، وباتَ تصميمُه وكأنَّه لا ينضُب. 

في أحدِ الأيام، وعندما كانتِ الشمسُ تغمرُ ريفَ فنلندا بالأشعةِ الدافئة؛ كشفَ "فيرتانن" عنْ طريقةٍ تُحافظُ على التوازنِ الدقيقِ بينَ حفظِ الأعلافِ ومقدارِ تغذيتِها. وابتكرَ تقنيةً منْ شأنِها تحويلُ جوهرِ العلفِ نفسِه؛ إلى موادَّ مغذيةٍ يُمكنُها إمدادُ الحيواناتِ بتغذيةٍ ممتازةٍ خلالَ مواسمِ الشتاءِ الطويلة.

تُعتبرُ النباتاتُ البقوليةُ مثلَ البرسيمِ علفًا أخضرَ يزودُ الماشيةَ بالفيتاميناتِ والبروتيناتِ اللازمةِ لتحقيقِ طاقتِها الإنتاجيةِ الكاملةِ عندَ حصادِها في المواسمِ المحددة. سعيًا إلى تحقيقِ الزراعةِ العقلانيةِ والاقتصاديةِ للعلفِ الأخضرِ الذي يحتوي على أقصى محتوىً منَ البروتين، درسَ "فيرتانين" ظروفَ امتصاصِ النيتروجينِ وتكوينِ البروتينِ في الكائناتِ النباتية.

في تخزينِ العلفِ الحيواني، كانَ التخميرُ مشكلةً لأنَّه يقللُ منْ محتوى البروتينِ في العلف، مما يجعلُ قيمتَه الغذائيةَ أقل. 

في محاولاتِه لتحسينِ توافُرِ الموادِّ الغذائيةِ في فنلندا خلالَ شهورِ الشتاءِ الطويلة، أسسَ "فيرتانين" طريقتَه في الحفاظِ على الأعلافِ الخضراءِ باستخدامِ بياناتٍ نظريةٍ بحتة. طريقتُه تلكَ تتجنبُ فقدَ البروتينِ وتقللُ منْ فقدانِ فيتاميناتِ الأعلافِ الخضراءِ في أثناءِ حفظِها لموسمِ الشتاء.

وفي أوائلِ ثلاثينياتِ القرنِ الماضي، بدأَ "فيرتانين" سلسلةً منَ التجاربِ التي أحدثتْ ثورةً في مجالِ حفظِ الأعلاف. كانَ "فيرتانين" يُدركُ أنَّ تدهورَ العلفِ سببُه في المقامِ الأولِ نشاطُ البكتيريا التي تؤدي إلى فقدانِ العناصرِ الغذائيةِ الحيوية. ومنْ خلالِ تلكَ الرؤية؛ توغلَ في عالمِ الكيمياءِ الحيوية، مستكشفًا طرقًا لمنعِ نموِّ البكتيريا معَ الحفاظِ على المحتوى الغذائيِّ للأعلاف. 

بعدَ سنواتٍ منَ البحثِ الدقيق، طورَ فيرتانين أسلوبًا متقدمًا يُعرفُ باسمِ "المتابعة". منْ خلالَ معالجةِ العلفِ الأخضرِ بكمياتٍ صغيرةٍ منَ الأحماضِ المخففة، اكتشفَ أنَّه يمكنُ أنْ يخلقَ بيئةً معاديةً للبكتيريا معَ الحفاظِ على سلامةِ المغذياتِ في العلف. قمعتِ الأحماضُ نموَّ الكائناتِ الحيةِ الدقيقةِ غيرِ المرغوبِ فيها، ومنعتِ التلفَ وحافظتْ على العناصرِ الغذائيةِ الأساسية. 

وسرعانَ ما اكتسبتْ تقنيةُ "فيرتانين" اعترافًا بعمليتِها الهائلةِ وقدرتِها على تغييرِ الممارساتِ الزراعية. تبنَّى المزارعونَ حولَ العالمِ هذهِ التقنيةَ التي سمحتْ لهمْ بتخزينِ العلفِ لفتراتٍ طويلةٍ دونَ المساسِ بقيمتِه الغذائية. كانَ هذا التطورُ مهمًّا بشكلٍ خاصٍّ لمناطقِ الشتاءِ القاسي التي يصعبُ فيها توفيرُ الغذاءِ الكافي للماشية. 

وفي عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وخمسةٍ وأربعين، جذبتْ مساهماتُ "فيرتانين" الرائدةُ في الكيمياءِ الزراعيةِ والتغذويةِ انتباهَ لجنةِ جائزةِ نوبل. بعدَ أنْ أدركتِ اللجنةُ التأثيرَ العميقَ لأبحاثِه واختراعاتِه في هذا المجال، ليحصلَ على جائزةِ نوبل في الكيمياءِ للعامِ نفسِه. 

بعدَ حصولِه على نوبل؛ قامَ "فيرتانن" أيضًا بتحسينِ طرقِ حفظِ الزبدة. اكتشفَ أنَّ أكسدةَ الليسيثين، وهوَ مركبٌ طبيعيٌّ في الزبدة، يؤدي إلى طعمٍ سيئٍ في الزبدةِ المخزنة. لكنْ؛ بإضافةِ الملحِ إلى الزبدة، يزدادُ الرقمُ الهيدروجينيُّ فوقَ الرقمِ 6، وتتوقفُ الأكسدة. وقدْ استُخدمت طريقةُ حفظِ الزبدةِ هذه في فنلندا لعقودٍ طويلة. 

وُلدَ "أرتوري فيرتانن" في هلسنكي في الخامسَ عشَرَ منْ يناير عامَ ألفٍ وثَمانِمئةٍ وخمسةٍ وتسعين، وتلقَّى تعليمَه في المدرسةِ الثانويةِ في فيبوري، فنلندا. 

عندما أنهى تعليمَه الأساسي، درسَ علمَ الأحياءِ والفيزياءِ والكيمياءِ في جامعةِ هلسنكي. حصلَ على درجةِ الماجستير في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وستةَ عشَرَ. 

عملَ فيرتانين مدةَ عامٍ مساعدًا في المختبرِ الصناعيِّ المركزيِّ في هلسنكي قبلَ أنْ يعودَ إلى الجامعةِ لدراسةِ الدكتوراة. 

في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وتسعةَ عشَرَ، حصلَ فيرتانين على درجةِ الدكتوراة في الكيمياءِ العضوية. وفي عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وعشرينَ، عملَ كيميائيًّا في مختبرٍ تابعٍ لجمعيةِ الألبانِ التعاونيةِ الفنلنديةِ التي تتحكمُ في جودةِ صناعةِ الزبدةِ والجبن. 

تضمَّنَ عملُ "فيرتانين" السفرَ إلى مختبراتٍ أخرى لاستكشافِ التقنياتِ الجديدة. وحينَ ذهبَ إلى زيورخ قررَ دراسةَ التقنياتِ الفيزيوكيميائيةِ ودرسَ علمَ الجراثيمِ والأنزيماتِ في ستوكهولم. 

في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وواحدٍ وعشرين، أصبحَ مديرًا لمختبرِ جمعيةِ الألبان، وهوَ المنصبُ الذي شغلَه لمدةِ عشرِ سنوات. تمَّ دمجُ المختبرِ لاحقًا معَ جامعةِ هلسنكي. بعدَ ذلكَ بثلاثِ سنوات، أصبحَ فيرتانين مدرسًا للكيمياءِ في جامعةِ هلسنكي. وتحولَ اهتمامُه بشكلٍ كاملٍ إلى الكيمياءِ الحيوية. 

أسسَ فيرتانين معهدَ الكيمياءِ الحيويةِ في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثلاثين، وبعدَ عامٍ أصبحَ أستاذًا للكيمياءِ الحيويةِ في جامعةِ هلسنكي للتكنولوجيا. في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وتسعةٍ وثلاثين، أصبحَ أستاذًا للكيمياءِ الحيويةِ في جامعةِ هلسنكي. 

أمضى سنواتِه الأخيرةَ في دراسةِ كيفيةِ تطويرِ علفٍ اصطناعيٍّ جزئيٍّ للماشية. تزوجَ فيرتانين في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وعشرينَ بعالِمةِ النباتِ "ليليا مويسيو" وأنجبا ولدَينِ، كارلو وأولافي. اشترى "فيرتانين" مزرعةً بالقربِ منْ هلسنكي واستخدمَها في بعضِ أبحاثِه. واستمتعَ بالحياةِ البسيطةِ ولمْ يمتلكْ سيارةً خاصةً على الرغمِ منْ إنجازاتِه العديدة.

بقيَ فيرتانين في معهدِ الكيمياءِ الحيويةِ الذي أسسَه حتى وفاتِه في الحادي عشرَ منْ نوفمبر عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثلاثةٍ وسبعينَ حينَ توفيَ عنْ عمرٍ يناهزُ ثمانيةً وسبعينَ عامًا نتيجةً لكسرٍ في الفخذِ والمضاعفاتِ اللاحقة. تكريمًا لإرثِه، أُطلقَ اسمُه على فوهةٍ على القمرِ وكويكبٍ سيارٍ يُعرفُ الآنَ باسمِ كلٍّ منَ الحفرةِ القمريةِ فيرتانين ألفٍ وأربعَمئةٍ وتسعةٍ وأربعين 1449.

doi:10.1038/nmiddleeast.2023.290