كيف آل الحال بشركة سلحت علماءها بأدوات الذكاء الاصطناعي؟
09 December 2024
نشرت بتاريخ 13 مارس 2024
تجارب مثيرة على الفئران تكشف عن التغيُّرات الجينية التي طرأت على أسلاف البشر من القِرَدة العليا، فذهبت بذيولها.
"أين ذيلي؟"
سؤالٌ طرحه عالِم الجينات بو شيا على المحيطين به عندما كان طفلًا، ثم عاد ليطرحه على نفسه قبل بضع سنوات من الآن، حينما كان يتعافى من إصابةٍ في العُصعص ألمَّت به إبَّان دارسته لنيل درجة الدكتوراه من جامعة نيويورك.
وها قد عثر شيا ورفقاؤه على الإجابة. فقد حدَّد الباحثون تغيُّرًا بعينه، يشترك فيه البشر والقرود العُليا، وإليه يمكن أن يُعزى فقدان أسلافهم للذيول، قبل نحو 25 مليون سنة.
فقد وجد الفريق أن الفئران التي تحمل تغيُّرات مماثلة في جينوماتها تكون ذيولها قصيرة، أو بلا ذيول. لكن بحثًا كهذا لم يكن ليرى النور إلا بعد خوض رحلة طويلة وشاقة: نُشرت الدراسة أخيرًا في الثامن والعشرين من فبراير المنقضي1، بعد مُضي نحو 900 يوم على تاريخ تقديمها لدورية Nature، وظهورها في صورة مسوَّدة بحثية؛ فقد كان على الفريق أن يبذل جهدًا إضافيًا لإنماء العديد من سلالات الفئران المعدَّلة جينيًّا، والبرهنة على أن التغيُّرات الجينية كان لها الأثر المتوقَّع.
يقول مالطة شبيلمان، الباحث في علم الجينات البشرية بجامعة كيل في ألمانيا، وهو مَن تولَّى مراجعة الدراسة لصالح دورية Nature: "أحمل لمؤلفي الدراسة احترامًا عميقًا؛ الحقيقة أنني تملؤني الدهشة وأنا أرى أنهم قد تمكَّنوا من إنجاز هذا العمل حقًا، رغم كل الصعاب".
فئران بلا ذيول
خلافًا لما نرى في أغلب أنواع القرود، نلاحظ أن القِرَدة العليا (ومنها البشر)، وكذا الأنواع المنقرضة قريبة الصلة بها تطوُّريًّا، ليس لها ذَنَبٌ أو ذيل. فالعظمة العُصعصية (أو عظمة الذيل) عندها ليست في حقيقة الأمر إلا أثرًا للفقرات التي يتألَّف منها الذيل في سائر الحيوانات. لم يكن في نيَّة شيا — الذي يعمل الآن بمعهد برود إنستتيوت التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) وجامعة هارفارد، وكلتا المؤسستين تقع بمدينة كامبريدج بولاية ماستشوستس الأمريكية — أن يجعل العثور على الأصل الجيني لهذه الصفة هدفًا يكرِّس له رسالة الدكتوراه. لكن الإصابة في عُصعصه، التي لحقت به إثر تعرُّضه لحادث سير، جدَّدت شغفه بمسألة الذيول.
بدافعٍ من شعور داخلي، قرر شيا أن يدرس جينًا معروفًا عنه أن له صلة ًبنمو الذيل. وكانت العالمة الأوكرانية نادين دوبروفولسكايا-زافادسكايا قد قدَّمت في عام 1927 توصيفًا علميًا لسلالة من فئران التجارب قصيرة الذيول، وذكرت أنها كانت تحمل طفرة في الجين المسمَّى: T، الذي يقابله في البشر الجين المعروف الآن باسم: TBXT. يقول شيا: "ستجد هذا الجين ضمن النتائج الأولى، إذا بحثتَ عنه على «جوجل»".
وببحثٍ سريع على محرك بحثي يكافئ «جوجل» في حقل علم الجينات — وهو متصفح للجينومات يتبع جامعة كاليفورنيا في سانتا كروز — تبيَّن أن البشر وغيرهم من القِرَدة العليا يحملون طفرة إضافة للجين TBXT لم يُعثر على مثيلها في الرئيسيات ذوات الذيول، ومنها القرود.
تضفير جيني
في المسوَّدة البحثية2 المنشورة على موقع «بيو أركايف» bioRxiv في سبتمبر من عام 2021، أثبت شيا ورفاقه أن طفرة الإضافة المذكورة في القِرَدة العليا يمكن أن تتمخض عنها النسخة القصيرة من البروتين الذي يرمِّزه الجين TBXT. وطرحوا في هذه المسوَّدة فكرة مفادها أن التقصير إنما يتم بعد نسخ الجين إلى حمض نووي ريبي مرسال (mRNA)، وعندما تجتمع الأجزاء العديدة من نسخة الجين المسؤولة عن ترميز البروتينات لتتضفَّر سويًّا. في الفئران المعدَّلة جينيًّا، التي تملك نسخة واحدة منقوصة من المكافئ الفأري للجين TBXT، ظهرت في الذيل عيوب عدَّة. وفي بعض الفئران، كان الذيل قصيرًا أو مختفيًا تمامًا؛ وفي بعضها الآخر، كان لوحظ أن الذيل كان معقودًا أو أطول من المعتاد.
يذكر شبيلمان أن عشرات الصحف ووسائل الإعلام تناقلت أخبار هذه النتائج عند أول ظهورها، إلا أن الدراسة — في مسوَّدتها الأولية — لم تكن قد برهنت على أن طفرة الإضافة التي تميِّز القِرَدة العليا، عند إدخالها على النسخة الفأرية من الجين TBXT، يمكن أن تُسبب فقدان الذيل. يقول: "لم تكن التجربة الأساسية قد أُجريَتْ بعد".
وذكر إيتاي ياناي، عالم بيولوجيا الأنظمة بجامعة نيويورك الذي شارك شيا قيادة الفريق البحثي، أنهم عندما تقدَّموا لدورية Nature بالورقة البحثية، لم يكونوا قد انتهوا بعدُ من إجراء تلك التجارب. وإذا بهم يخلُصون من تجاربهم إلى نتيجة مغايرة: فعند زرع طفرة الإضافة هذه في جينومات الفئران، لم يترتب على ذلك إنتاج مستويات عالية من النسخة القصيرة من البروتين. ما حدث أن الفئران الناتجة كانت ذيولها طبيعية.
فما كان من الباحثين إلا أن أحدثوا في الفئران تعديلًا جينيًّا آخر، بإدخال طفرة إضافةٍ مغايرة على النسخة الفأرية من الجين TBXT. وهنا وقع ما لم يكن في الحسبان؛ إذ تسبَّبت هذه الطفرة، وبمحض الصدفة، في أن يحدث خطأ في تضفير الجين، هو نفس الخطأ في تضفير الجين البشري. فكان أن وُلدت الفئران الحاملة لهذه الطفرة بذيول قصيرة، أو لم يكن لها ذيول من الأصل.
مضى عهد التقافز بين الغصون
يرى ياناي أن التجارب الإضافية عزَّزت الدراسة، ولو أن المحصلة النهائية هي نفسها تقريبًا. وفي تعليقٍ أدلت به ميريام كونكل، عالمة الجينات التطورية بجامعة كليمسون في ساوث كارولاينا، قالت إن "تحضير كل هذه الأنواع من الفئران ليس بالأمر الهيّن. لقد تعاطفت مع فريق الباحثين عندما رأيت حجم العمل الذي أنجزوه".
كما علَّق شبيلمان قائلًا: "تبيَّن أن الدراسة أقوى وأشدَّ رصانةً مما كان يُظنُّ بادئ الأمر؛ فقد أثبت الفريق بما لا يدع مجالًا للشك أن هذا التغيُّر كان عاملًا في اختفاء الذيل — وإنْ لم يكن العامل الوحيد". وكان الباحثون قد حلَّلوا 140 جينًا من الجينات المرتبطة بنمو الذيل، وتعرَّفوا على آلاف التغيرات الجينية التي تتميَّز بها القِرَدة العليا، والتي ربما أسهمت إسهامًا ما في اختفاء الذيل.
ومن هنا، تقول جابرييلا روسو، عالمة الأنثروبولوجيا البيولوجية بجامعة ستونيبروك في نيويورك: "أتطلع حقًا إلى مطالعة أعمال بحثية تتناول الآليات الجينية الكامنة وراء قِصر الذيل واختفائه". يعتقد شيا وفريقه أن فقدان الذيل ربما كان له دور في انتصاب قامة القِرَدة العليا، وقضائها وقتًا أقل بين الأشجار. أما روسو، فليست مطمئنةً تمامًا إلى هذا الطرح. تشير الأدلة الأحفورية إلى أن القِرَدة العليا كانت تسير بادئ الأمر على أربع، شأنها شأن القرود التي تسكن الأشجار، وأن صفة السير على قدمين لم تتطوَّر إلا بعد انقضاء ملايين السنين.
ولا يفوتنا هنا الإشارة إلى أن القِرَدة العليا ليست متفرِّدة باختفاء الذيل من سائر الرئيسيات: فقرد الماندريل، وقرد المكاك، واللوريس، ذلك الحيوان الليلي واسع العينين، جميعها رئيسيات بلا ذيول. وفي ذلك إشارة إلى أن هذه الصفة تطوَّرت مراتٍ عدة.
يقول شيا: "أكبر الظن أن هناك طرقًا شتَّى لفقدان الذيل أثناء مرحلة النمو. وهذه هي الطريقة التي اختارها أسلافنا".
* هذه ترجمة للمقالة المنشورة بدورية Nature بتاريخ 28 فبراير 2024.
doi:10.1038/nmiddleeast.2024.89
References
1. Xia, B. et al. Nature 626, 1042–1048 (2024).
2. Xia, B. et al. Preprint at bioRxiv https://doi.org/10.1101/2021.09.14.460388 (2021).
تواصل معنا: