مقالات

نوبل الكيمياء عام 1949.. الاقتراب من الصفر المُطلق

نشرت بتاريخ 15 يناير 2024

ينصُّ القانونُ الثالثُ للديناميكا الحرارية، المعروفُ أيضًا باسمِ نظريةِ "نيرنست" الحراريةِ على أنَّه منَ المستحيلِ الوصولُ إلى الصفرِ المطلقِ لدرجةِ الحرارةِ بأيِّ عددٍ محدودٍ منَ العمليات

محمد منصور

للأستماع للحلقة أضغط على هذا الرابط

Enlarge image
ينصُّ القانونُ الثالثُ للديناميكا الحرارية، المعروفُ أيضًا باسمِ نظريةِ "نيرنست" الحراريةِ على أنَّه منَ المستحيلِ الوصولُ إلى الصفرِ المطلقِ لدرجةِ الحرارةِ بأيِّ عددٍ محدودٍ منَ العمليات. بعبارةٍ أخرى، عندما يقتربُ النظامُ منَ الصفرِ المطلق، فإنَّ إنتروبيا النظامِ تقتربُ منَ الحدِّ الأدنى للقيمة، وغالبًا ما يتمُّ أخذُها على أنَّها صفر، ولا يمكنُ حدوثُ مزيدٍ منَ الانخفاضِ في الإنتروبيا.

والصفرُ المطلقُ هوَ أدنى درجةِ حرارةٍ يمكنُ تحقيقُها نظريًّا والذي يعادلُ مِئتَينِ وثلاثًا وسبعينَ درجةً فاصلة خمسةَ عشَرَ تحتَ الصفرِ المئوي، حيثُ تتوقفُ كلُّ الحركةِ الجزيئية. لكنْ؛ وفي الحالةِ النظرية؛ فإنَّ إنتروبيا مادةٍ بلوريةٍ تمامًا عندَ الصفرِ المطلقِ ستساوي صفر.

ففي مادةٍ متبلورةٍ تمامًا عندَ الصفرِ المطلق، يتمُّ ترتيبُ الذراتِ أوِ الجزيئاتِ في نمطٍ منتظمٍ محددٍ جيدًا حيثُ لا توجدُ طاقةٌ حراريةٌ متاحةٌ للتسببِ في أيِّ اهتزازاتٍ أوْ حركاتٍ للجسيمات، وبالتالي، يكونُ النظامُ في أدنى حالةِ طاقةٍ له معَ الحدِّ الأقصى منَ الترتيبِ والحدِّ الأدنى منَ الاضطراب.

لكنْ؛ منَ المهمِّ أنْ نلاحظَ أنَّ تحقيقَ درجةِ حرارةٍ صفريةٍ مطلقةٍ أمرٌ مستحيلٌ عمليًّا، فالإنتروبيا الصفريةُ لمادةٍ متبلورةٍ تمامًا عندَ الصفرِ المطلقِ هيَ مفهومٌ مثاليٌّ يُستخدمُ في المناقشاتِ النظريةِ والحساباتِ في الديناميكا الحرارية. في الواقع، تحقيقُ الصفرِ المطلقِ غيرُ ممكنٍ بسببِ مبدأِ عدمِ إمكانيةِ الوصولِ للقانونِ الثالث.

لكنْ؛ ماذا عنِ الاقترابِ منَ الصفرِ المطلق؟

قدمَ الفائزُ بجائزةِ نوبل الكيمياءِ لعامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وتسعةٍ وأربعينَ "ويليام فرانسيس جيوك" أعظمَ مساهماتِه في الكيمياءِ بعدَ أنْ تمكنَ -منْ خلالِ المهارةِ التجريبيةِ الفائقة- منَ التغلبِ على العديدِ منَ الصعوباتِ الكبيرةِ التي يجبُ أنْ تكونَ متأصلةً في التحقيقاتِ حولَ سلوكِ الموادِّ عندَ الاقترابِ منَ الصفرِ المطلقِ بعدَ أنْ تمكنَ منِ ابتكارِ طريقتِه الخاصةِ المعروفةِ باسمِ التبريدِ المغناطيسيِّ والتي تغلبتْ على التقنياتِ السابقةِ الهادفةِ  إلى الوصولِ إلى درجاتِ حرارةٍ أقربَ إلى الصفرِ المطلق.

طورتْ دراساتُ "جيوك" بشكلٍ كبيرٍ فهمَنا للإنتروبيا، بعدَ أنْ أجرى تجاربَ دقيقةً لقياسِ تغيراتِ الإنتروبيا للموادِّ عندَ درجاتِ حرارةٍ منخفضة، ليقدمَ بحثُه رؤىً قيمةً حولَ سلوكِ المادةِ في الظروفِ القاسيةِ وهوَ الأمرُ الذي وسَّعَ معرفتَنا بالخصائصِ الديناميكيةِ الحراريةِ للمواد.

كيفَ تمكنَ "جيوك" منَ الاقترابِ منَ الصفرِ المطلق؟

تعتمدُ طريقةُ "جيوك" على الموادِّ البارامغناطيسية، وهيَ مادةٌ تحتوي على إلكتروناتٍ غيرِ متزاوجةٍ وتنجذبُ بشكلٍ ضعيفٍ إلى مجالٍ مغناطيسي؛ مثلَ كبريتاتِ الجادولينيوم.

في البدايةِ، تكونُ المادةُ البارامغناطيسيةُ في حالةٍ غيرِ مغناطيسيةٍ عندَ درجةِ حرارةٍ أعلى. يتمُّ تطبيقُ مجالٍ مغناطيسيٍّ قويٍّ على المادة، عبرَ محاذاةِ لفاتِ الإلكتروناتِ غيرِ المُزاوجةِ معَ اتجاهِ المجال. تؤدي المحاذاةُ إلى ارتفاعِ درجةِ حرارةِ المادةِ بسببِ زيادةِ طاقتِها المغناطيسية.

بعدَ ذلك؛ تُعزلُ المادةُ البارامغناطيسيةُ حراريًّا عنْ محيطِها لضمانِ عدمِ تبادُلِ الحرارةِ معَ البيئةِ الخارجيةِ في أثناءِ عمليةِ إزالةِ المغناطيسية، مما يجعلُها عمليةً ثابتةَ الحرارة؛ وبمجردِ عزلِها، يتمُّ تقليلُ المجالِ المغناطيسيِّ تدريجيًّا إما عنْ طريقِ تحريكِ المادةِ بعيدًا عنْ مصدرِ المجالِ المغناطيسيِّ أوْ عنْ طريقِ تقليلِ التيارِ المتدفقِ عبرَ الملفِّ الذي يولِّدُ المجال. معَ انخفاضِ المجال، يصبحُ دورانُ الإلكتروناتِ غيرِ المزاوجةِ أقلَّ محاذاةً معَ المجال.

وعندَما ينخفضُ المجالُ المغناطيسي، تنخفضُ الطاقةُ المغناطيسيةُ للمادةِ البارامغناطيسيةِ أيضًا. وفقًا لقوانينِ الديناميكا الحرارية، يصاحبُ انخفاضَ الطاقةِ انخفاضٌ في درجةِ الحرارة. نتيجةً لذلك، تنخفضُ درجةُ حرارةِ المادة؛ ويمكنُ تكرارُ عمليةِ تقليلِ المجالِ المغناطيسيِّ ومراقبةُ انخفاضِ درجةِ الحرارةِ عدةَ مراتٍ لتحقيقِ درجاتِ حرارةٍ أقل. تؤدي كلُّ دورةٍ منْ إزالةِ المغناطيسيةِ الثابتةِ للحرارةِ إلى مزيدٍ منَ الانخفاضِ في درجةِ الحرارةِ حتى تصلَ المادةُ إلى درجةِ حرارةٍ قريبةٍ منَ الصفرِ المطلق.

وحينَ تقتربُ المادةُ منَ الصفرِ المُطلق؛ تبدأُ في عمليةِ تقليلِ اهتزازاتِ الذرات؛ وتبدو ذراتُها مُرتبةً داخلَ بلوراتٍ شبهِ مثالية؛ ما يسمحُ للعلماءِ بدراستِها بصورةٍ أفضل.

وُلدَ ويليام فرانسيس جيوك في الثاني عشَرَ منْ مايو عامَ ألفٍ وثَمانِمئةٍ وخمسةٍ وتسعينَ بالقربِ منْ شلالاتِ نياجرا بكندا، لأبوينِ منْ أصلٍ أمريكي، وهوَ الأولُ منْ بينِ ثلاثةِ أطفال.

التحقَ بمدرسةٍ عامةٍ في ولايةِ ميشيجان الأمريكية. بعدَ وفاةِ والدِه، عادتِ الأسرةُ إلى شلالاتِ نياجرا الكندية، حيثُ تلقَّى تعليمَه الثانويَّ في معهدِ نياجرا فولز كوليجيت.

توفيَ الأبُ عندَما كانَ في الثالثَةَ عشْرةَ، تاركًا للأسرةِ مواردَ ماليةً هزيلةً كانَ لا بدَّ منِ استكمالِها بوظائفَ بدوامٍ جزئيٍّ ووظائفَ صيفيةٍ منْ قِبَلِ جميعِ أفرادِ الأسرة. قبلتِ السيدةُ جيوك العملَ بدوامٍ جزئيٍّ كخياطةٍ لعائلةِ الدكتور "جيه دبليو بيكمان" الذي نقلتْه شركةُ سياناميد الأمريكيةُ إلى شلالاتِ نياجرا. تطورتْ علاقةُ صداقةٍ قويةٍ بينَ السيدةِ جيوك والسيدةِ بيكمان. أدتْ تلكَ الرابطةُ دورًا محوريًّا في مسيرةِ جيوك المهنية.

اتخذَ "جيوك" قرارًا قويًّا شابًّا عندَ دخولِه المدرسةَ الثانوية؛ إذْ قررَ أنَّه سوفَ يستعدُّ للعملِ المُربحِ في أقربِ وقتٍ ممكن؛ وقررَ التخليَ عنِ التعليمِ الجامعيِّ بسببِ الضغطِ المالي، إلا أنَّ والدتَه طلبتْ مساعدةَ السيدةِ "بيكمان" لإقناعِ ابنِها بضرورةِ إكمالِ مسيرتِه العلمية؛ لكنْ دونَ جدوى.

بعدَ التخرجِ منَ المدرسةِ الثانوية، سعى "جيوك" للعملِ في العديدِ منْ محطاتِ توليدِ الطاقةِ في شلالاتِ نياجرا لأسبابٍ مالية. حلمَ "جيوك" لسنواتٍ عديدةٍ أنْ يصبحَ مهندسًا كهربائيًّا وأرادَ الحصولَ على خبرةٍ أوليةٍ في محطاتِ توليدِ الطاقةِ إلا أنَّه لمْ يتمكنْ منَ الحصولِ على العمل.

جاءتْه الفرصةُ حينَ قرأَ عنْ حاجةِ شركةِ Hooker Electro-Chemical Company بنيويورك إلى عمال، مما دفعَه إلى قَبولِ العملِ في مختبرِهم.

استحوذتِ العملياتُ المنظمةُ جيدًا في هذا المصنعِ الكيميائي، إلى جانبِ المشكلاتِ التي رآها قيدَ الحل، على اهتمامِه وجعلتْه يقررُ أنْ يصبحَ مهندسًا كيميائيًّا.

في تلكَ الفترة؛ انتقلتْ عائلةُ "بيكمان" إلى "بيركلي"، وعندَما كتبتِ السيدةُ جيوك عنْ قرارِ ابنِها بدخولِ الهندسةِ الكيميائية، كتبتِ السيدةُ بيكمان عنْ إعجابِ زوجِها بالعملِ الذي كانَ يقومُ بهِ أحدُ العلماءِ في جامعةِ كاليفورنيا. اقتنعَ "جيوك" بالانتقالِ إلى بيركلي والتسجيلِ في جامعةِ كاليفورنيا. وأقنعَ بقيةَ أفرادِ الأسرةِ بالانضمامِ إليه عندَما دخلَ أخوه وأختُه الكلية.

التحقَ بكليةِ الكيمياءِ بجامعةِ كاليفورنيا، ومنْ هناكَ حصلَ على بكالوريوسِ العلوم. ثمَّ حصلَ على الدكتوراةِ وحصلَ على درجةِ البكالوريوس في الكيمياءِ معَ تخصصٍ ثانويٍّ في الفيزياءِ عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ واثنينِ وعشرينَ؛ سرعانَ ما اكتسبَ إعجابًا بالبحثِ الأساسيِّ. وتمَّ تعيينُه مدرسًا للكيمياءِ عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ واثنينِ وعشرين.

في تلكَ الفترة؛ كانتْ "موريل فرانسيس أشلي" طالبةً تدرسُ الكيمياءَ بجامعةِ كاليفورنيا، كما كانتْ صديقةً قديمةً لأختِ جيوك ووالدتِه، أظهرَ "جيوك" اهتمامًا بها. في اليومِ الذي قدمتْ فيه رسالةَ الدكتوراه في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ واثنينِ وثلاثين، تزوجتْ هيَ وجيوك ورُزقا بولدَين، وليام فرانسيس أشلي جيوك وروبرت ديفيد أشلي جيوك، وأربعةِ أحفاد. أصبحتْ "موريل" عالِمةَ نباتاتٍ بارعةً ولسنواتٍ عديدةٍ كانتْ تدرسُ جراثيمَ السرخسِ التي جمعتْها لها شبكةٌ منَ الأصدقاءِ في جميعِ أنحاءِ العالمِ وكانَ واضحًا لأولئكَ الذينَ عرفُوا "جيوك" أنَّه كانَ فخورًا جدًّا بإنجازاتِها.

كانَ الهدفُ الرئيسيُّ لأبحاثِ "جيوك" هوَ إثباتُ - منْ خلالِ عددٍ كبيرٍ ومتنوعٍ منَ الاختباراتِ الدقيقة- أنَّ القانونَ الثالثَ للديناميكا الحراريةِ هوَ قانونٌ طبيعيٌّ أساسي.

تضمنتْ أبحاثُه عددًا كبيرًا منَ التحديداتِ الدقيقةِ للإنتروبيا منْ قياساتِ درجاتِ الحرارةِ المنخفضة، خاصةً الغازاتِ المكثفة. وقدْ أدتْ أبحاثُه في تأثيرِ المجالاتِ المغناطيسيةِ على إنتروبياتِ الموادِّ البارامغناطيسيةِ إلى اختراعِ طريقةِ إزالةِ المغناطيسيةِ ثابتةِ الحرارةِ لإنتاجِ درجاتِ حرارةٍ أقلَّ بكثيرٍ منْ درجةٍ واحدةٍ مطلقة.

بالإضافةِ إلى الأبحاثِ التي أنتجتِ الطريقةَ البديعةَ لإزالةِ الحرارةِ منَ المواد، أدارَ جيوك برنامجًا هندسيًّا خلالَ الحربِ العالميةِ الثانيةِ فصممَ وبنى محطةً متنقلةً لتوليدِ الأكسجينِ السائل. كانتِ المبادلاتُ الحراريةُ التي تمَّ تصميمُها في هذا البرنامجِ هيَ الجيلُ الأولُ منَ الوحداتِ العملاقةِ المستخدمةِ الآنَ في جميعِ أنحاءِ العالمِ في التسييلِ الفعالِ للغازِ الطبيعي.

في حياتِه الأكاديميةِ والشخصية؛ عبرَ "جيوك" عنْ آرائِه ومواقفِه بقوة، ودافعَ عنها بقوة، وغيّرَها على مضض. كانَ محصنًا منْ أيِّ ضغوطٍ للتوافقِ معَ البِدعِ الاجتماعية. لمْ يدخنِ التبغَ ولمْ يشربِ الكحول - ليسَ بسببِ اعتراضاتٍ أخلاقيةٍ ولكنْ ببساطةٍ لأنَّه لمْ يحبَّ طعمَ أيٍّ منهما.

لسنواتٍ لمْ يكنْ يمتلكُ سيارة، واستسلمَ لضغوطِ الأسرةِ لشراءِ واحدةٍ فقطْ بعدَ حصولِه على جائزةِ نوبل في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وتسعةٍ وأربعينَ. حتى ذلكَ الحين، رفضَ تعلمَ القيادة، وكانتْ موريل سائقَه المخلصَ حتى غمرَها مرضُها العُضال.

كانتِ السمةُ المميزةُ لوجودِه في جامعةِ كاليفورنيا هيَ حبُّه للعلمِ والبحثِ وتفانيه فيه. باستثناءِ فترةِ الحربِ العالميةِ الثانية، كانَ "جيوك" يعملُ لفترةٍ تزيدُ عنْ عشَرةِ أشهرٍ في البحثِ العلميِّ معَ إقامةٍ لمدةِ ستةِ أسابيعَ على الأقلِّ في شهرَي يوليو وأغسطس في مكانِه الصيفيِّ على النهرِ الروسيِّ في كاليفورنيا. أحبَّ ركوبَ القواربِ والسباحةَ والبستنةَ والنجارة. غالبًا ما صرحَ لمعارفِه وأصدقائِه أنَّ معظمَ الناسِ يتحملونَ وظيفةً يكرهونَها لأكثرَ منْ أحدَ عشرَ شهرًا في السنةِ حتى يتمكنُوا منْ قضاءِ ثلاثةِ أسابيعَ في فعلِ ما يحبونَه حقًّا لكنَّه كانَ يؤكدُ أنَّه يعودُ منْ إجازتِه لقضاءِ الأشهرِ العشرةِ التاليةِ في عملِ ما يحب.. البحثِ العلمي.

وفي الثامنِ والعشرينَ من مارس عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ واثنينِ وثمانين، أنهى الموتُ مسيرةَ "جيوك" الذي يُعدُّ أحدَ أشهرِ علماءِ الكيمياءِ في التاريخ؛ وبعدَ أنْ قضى ستةً وستينَ عامًا في جامعةِ كاليفورنيا بيركلي منها ستةُ أعوامٍ كطالب، وأربعينَ عامًا كعضوِ هيئةِ تدريسٍ منتظم، وخمسةَ عشَرَ عامًا كأستاذٍ فخريٍّ استدعى الخدمةَ الفعلية، وخمسَ سنواتٍ كأستاذٍ فخري.

doi:10.1038/nmiddleeast.2024.21