رحلة باحثة بين محطات حقل دراسة التكاثفات
04 December 2024
نشرت بتاريخ 31 يناير 2023
مجموعة دورية Nature المختارة من أفضل الأدوات والتقنيات التي يتوقع أن يكون لها تأثير هائل على العلوم في العام المقبل.
نتنقل من تقنيات تعيين التسلسل الجيني للبروتينات إلى تقنيات الفحص المجهري الإلكتروني، ومن تقنيات علم الآثار إلى تقنيات علم الفلك، لنستعرض سبع تقنيات يرجح أن تفجر هزة كبيرة في الأوساط العلمية خلال هذا العام.
تعيين تسلسل جزيئات بروتينية مفردة
يمثل «البروتيوم» مجموع البروتينات التي تنتجها الخلية أو الكائن الحي، ويمكن أن يكون شديد الثراء بالمعلومات الجينية المرتبطة بالصحة والمرض، لكن، إلى اليوم، يظل من الصعوبة بمكان توصيف خصائصه.
وتجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أن مجموعات البروتينات تتشكل من مجموعة أكبر من الأحرف الجينية، هي بمنزلة لبنات أساسية شبيهة بتلك المكونة للحمض النووي، إذ يتكون البروتين مما يقرب من 20 من الأحماض الأمينية الطبيعية (مقارنة بالنيوكليوتيدات الأربعة التي تشكل جزيئات مثل جزيئات الحمض النووي والحمض النووي الريبي المرسال). وينتج عن هذا تنوع كيميائي أكبر كثيرًا. ويوجد بعض هذه البروتينات في الخلية في صورة بضع جزيئات قليلة؛ وعلى عكس الأحماض النووية، لا يمكن تضخيم البروتينات (زيادة عدد نسخها)، وهو ما يعني أن تقنيات التحليل البروتيني تضطر إلى التصدي لمهمتها باستخدام الكمية المتاحة من هذه المواد الجينية، أيما كان قدرها.
وتستخدم غالبية التحليلات البروتيومية مقياس الطيف الكتلي، وهي تقنية تعمل على توصيف خصائص خلائط البروتينات على أساس كتلتها وشحنتها. ويمكن لعمليات التوصيف تلك قياس خصائص آلاف البروتينات في آن واحد. بيد أن الجزيئات المكتشفة لا يمكن دائمًا الوقوف وقوفًا دقيقًا على خصائصها، فغالبًا ما تُغفل خصائص البروتينات التي لا توجد بوفرة في الخلائط. غير أنه في الوقت الراهن، يبدو أنه بدأت تلوح في الأفق تقنيات لتعيين التسلسل الجيني لجزيئات مفردة، قادرة على الوقوف على التسلسل الجيني للعديد من بروتينات العينات — إن لم يكن جميعها — في آن واحد، وكثير من هذه التقنيات مشابه للتقنيات المستخدمة في تعيين التسلسل الجيني للحمض النووي.
ويدرس إدوارد ماركوت، عالم الكيمياء الحيوية من جامعة تكساس في مدينة أوستن الأمريكية، استخدام إحدى هذه التقنيات، وتُعرف باسم تقنية تعيين التسلسل البروتيني بالواسمات الفلورية المتألقة1. وتعتمد تقنية ماركوت، التي أفاد باكتشافها في عام 2018، على عملية كيميائية تدريجية يجري فيها وسم الأحماض الأمينية المفردة بواسمات فلورية متألقة، ثم تمزيقها واحدًا تلو الآخر بدءًا من نهاية بروتين يقترن بسطحها، بينما تلتقط كاميرا إشارة التألق الفلوري الناتجة. ويشرح ماركوت هذه العملية قائلًا: "يمكننا وسم البروتينات بأصباغ فلورية مختلفة ثم رصد الجزيئات واحدًا تلو الآخر في أثناء قيامنا بتقطيعها". وفي العام الماضي، قدم فريق بحثي في شركة «كوانتم-سي» Quantum-Si، وهي شركة للتكنولوجيا الحيوية في جيلفورد بولاية كونيتيكت، توصيفًا لتقنية بديلة لتعيين التسلسل البروتيني بالواسمات الفلورية المتألقة، تستخدم بروتينية "رابطة" ذات وسم فلوري متألق للوقوف بدقة على تسلسلات الأحماض الأمينية (أو عديدات الببتيدات) في نهايات البروتينات2.
وتعمل فرق بحثية أخرى على تطوير تقنيات تحاكي تعيين تسلسل الحمض النووي القائم على المسام النانوية، من خلال توصيف خصائص عديدات الببتيدات البروتينية على أساس التغيرات التي تحدثها في تيار كهربي في أثناء مرورها عبر قنوات دقيقة. على سبيل المثال، استعرض عالم الفيزياء الحيوية سيس ديكر وفريقه البحثي — من جامعة دِلفت للتكنولوجيا في هولندا — إحدى هذه التقنيات في عام 2021، مستخدمين مسامًا نانوية بروتينية، وتمكنوا من تمييز الأحماض الأمينية المفردة في عديدات الببتيدات في أثناء مرورها عبر المسام3. وفي التخنيون، معهد إسرائيل للتكنولوجيا في حيفا، يعاين فريق اختصاصي هندسة الطب الحيوي أميت ميلر أداء أجهزة ترانزستورية لتعيين تسلسل البروتينيات باستخدام المسام النانوية، وهي أجهزة من مواد قائمة على السيليكون، يمكن أن تتيح إجراء تحليلات عالية الإنتاجية للعديد من جزيئات البروتينات المفردة في وقت واحد. وحول ذلك، يقول ميلر: "قد يسنح لنا فحص عشرات الآلاف أو حتى الملايين من المسام النانوية في آن واحد".
وعلى الرغم من أن التقنيات المستخدمة لتعيين تسلسل جزيئات بروتينية مفردة لم تتجاوز في الوقت الراهن مرحلة البرهنة على فاعليتها من حيث المبدأ، فإن بدء استخدامها على نطاق تجاري يقترب بوتيرة محمومة؛ فقد أعلنت شركة «كوانتم-سي»، على سبيل المثال، عن خطط تهدف إلى شحن معدات هذا العام، من معدات الجيل الأول من هذه التقنيات. وقد ذكر ميلر أن مؤتمر تعيين التسلسل البروتيني في دِلفت المنعقد في نوفمبر من عام 2022 تضمن عقد سلسلة من النقاشات المكرسة للشركات الناشئة في هذا المجال. وحول ذلك، يقول ميلر: "يذكرني هذا كثيرًا بالأيام الأولى التي سبقت الجيل الجديد من تقنيات تعيين تسَلسَل الحمض النووي".
كذلك يشعر ماركوت، الذي شارك في تأسيس شركة «إريزيون» Erisyon في مدينة أوستن بولاية تكساس الأمريكية، بالتفاؤل، معللًا لشعوره ذلك بقوله: "المسألة لا تتعلق حقيقة بما إذا كانت هذه التقنيات ستنجح أم لا، وإنما بمتى ستسنح أقرب فرصة لتصبح متاحة في أيدي الناس".
تلسكوب جيمس ويب الفلكي
سادت أجواء من الحماس والترقب بين علماء الفلك في مطلع العام الماضي؛ فبعد عملية تصميم وتشييد لـ«تلسكوب جيمس ويب الفلكي» (JWST)، استمرت بالتعاون مع وكالتي الفضاء الأوروبية والكندية لأكثر من عقدين من الزمان، أطلقت وكالة ناسا التلسكوب في مداره بنجاح في الخامس والعشرين من ديسمبر عام 2021. وكان على العالم أن يتابع في ترقب طيلة ما يقرب من سبعة أشهر التلسكوب في أثناء عملية بسط معداته وألواحه في الفضاء استعدادًا للجولة الأولى من عملياته الرصدية.
ولا شك أنه كان حدثًا جديرًا بهذا الترقب. فيقول مات ماونتن، اختصاصي علم الفلك من معهد علوم تلسكوبات الفضاء في مدينة بالتيمور بولاية ميريلاند الأمريكية، وهو أيضًا عالم تلسكوبات شارك في مشروع «تلسكوب جيمس ويب الفلكي»، إن روعة أولى الصور التي التقطها التلسكوب تجاوزت أكثر توقعاته وخيالاته جموحًا. فيقول ماونتن: "تبين أن هذه الفراغات في السماء خادعة، إذ تناثرت المجرات في واقع الحال بكل مكان". وأردف قائلًا: "كنا نعي نظريًا ذلك بالفعل، لكن أن نشهده بأم أعيننا، شكّل تجربة ذات وقع مختلف تمامًا".
صُمِمَ «تلسكوب جيمس ويب الفلكي» ليبدأ من حيث انتهى «تلسكوب هابل الفلكي». فقد خرج لنا الأخير بمناظر خلابة للكون، لكنه قصر عن رصد بعض النقاط بالكون؛ إذ كانت النجوم والمجرات العتيقة التي تقع بصمتها الضوئية في نطاق الأشعة تحت الحمراء غير مرئية له. وقد تطلب تصحيح ذلك القصور أداة تتمتع بالدقة اللازمة لرصد الآثار شديدة الخفوت للأشعة تحت الحمراء، التي تنشأ على بعد مليارات السنين الضوئية.
من هنا، اشتمل التصميم النهائي لـ«تلسكوب جيمس ويب الفلكي» على مجموعة من 18 مرآة بريليوم مصقولة وملساء تمامًا يبلغ قطر كل منها 6.5 متر عند بسطها. ويقول ماونتن إن هذه المرايا مُصممة بعناية ودقة بالغة بحيث إنه "إذا قمت بتمديد جزء منها فوق الولايات المتحدة، فلن يتجاوز سمك أي جزء منها أكثر من بضع بوصات قليلة". وهذه المرايا مزودة بأحدث أجهزة اكتشاف الأشعة تحت الحمراء القريبة والمتوسطة.
ويسمح ذلك التصميم لـ«تلسكوب جيمس ويب الفلكي» بسد الثغرات المعرفية التي عجز هابل عن ملئها، ليرصد على سبيل المثال آثار ضوء قادمة من مجرة عمرها 13.5 مليار سنة، وهي مجرة أنتجت بعضًا من أولى ذرات الأكسجين والنيون في الكون. وقد كشف التلسكوب أيضًا عن بعض المفاجآت؛ فتمكن، على سبيل المثال، من قياس تكوين الغلاف الجوي لفئات معينة من الكواكب الواقعة خارج المجموعة الشمسية.
وفي الوقت الحالي، تتزايد صفوف الباحثين الساعين إلى الظفر ببعض الوقت في استخدام التلسكوب. فعلى سبيل المثال، باستخدامه، تُجري ميكاكو ماتسورا، عالمة الفيزياء الفلكية من جامعة كارديف بالمملكة المتحدة، دراستين تهدفان إلى استكشاف سبل تكوُن الغبار الكوني الذي يمكن أن يسهم في تشكل النجوم والكواكب، وآليات تدميره. وتشيد ماتسورا بالتلسكوب، مقارنة إياه بالتلسكوبات التي استخدمها فريقها في الماضي، قائلة: "يمثل التلسكوب فئة مختلفة تمامًا من أدوات الرصد، من حيث الدقة ونقاء الصور. فقد شهدنا باستخدامه ظواهر جديدة تمامًا تجري داخل الأجرام؛ إنه لمذهل".
التصوير المجهري الإلكتروني الحجمي
يُعرف التصوير المجهري الإلكتروني (EM) بدقته الفائقة. بيد أن هذه الدقة تتحقق في أغلب الوقت، على مستوى سطح العينات. ويتطلب سبر أسطح العينات عملية نحت لها، تتجزأ خلالها إلى شرائح رقيقة للغاية، غالبًا ما يجدها علماء الأحياء غير كافية لتحقيق الغرض المرجو منها. وتوضح لوسي كولينسون المتخصصة في التصوير المجهري الإلكتروني بمعهد فرانسيس كريك في لندن أن تناول خلية مفردة بالدراسة قد يتطلب تجزئتها إلى 200 مقطع. وتضيف: "إذا كان لديك [مقطع شرائحي] واحد فحسب، فستصبح استنتاجاتك رهن بالاحتمالات الإحصائية".
وقد أخذ باحثون مؤخرًا في تسخير دقة التصوير المجهري الإلكتروني للحصول على صور ثلاثية الأبعاد لعينات أنسجة بأحجام تبلغ العديد من المليمترات المكعبة.
وفي السابق، كان وضع تصوُر لأحجام كتلك باستخدام صور الفحص المجهري الإلكترونية ثنائي الأبعاد، لاستحداث خريطة للوصلات العصبية الدماغية على سبيل المثال، يتطلب عملية شاقة من تحضير العينات، وتصويرها، وحساب قياساتها، لتحويل تلك الصور إلى مجموعة من الصور المتعددة. والآن تعمل أحدث تقنيات «التصوير المجهري الحجمي» على تبسيط هذه العملية بشكل كبير.
غير أن هذه التقنيات تنطوي على العديد من المزايا والعيوب. فعلى سبيل المثال، التصوير المجهري الإلكتروني التسلسلي الماسح لأسطح كتلية (المعروف اختصارًا بـ SBEM)، والذي يستخدم شفرة ذات حواف ماسية لإزالة طبقات متسلسلة رفيعة من عينة مطمورة في الراتينج في أثناء تصويرها يُعد سريعًا نسبيًا ويمكنه التصدي لتصوير عينات يقترب حجمها من ملليمتر مكعب واحد. غير أن هذه التقنية تتسم بضعف وضوحها في قدرتها على تخلخل سمك الأنسجة لتصويرها، أي أن إعادة تمثيل حجم العينة تعطي صورة مشوشة نسبيًا. وينتِج الفحص المجهري الإلكتروني بالشعاع الأيوني المركز (المعروف اختصارًا بـ FIB-SEM) طبقات أرق كثيرًا، وبالتالي دقة وضوح أقل، لكنه أكثر ملاءمة للعينات الأصغر حجمًا.
وتصف كولينسون نشأة تقنيات «التصوير المجهري الإلكتروني الحجمي» بأنها "ثورة هادئة"، إذ يسلط الباحثون الضوء على نتائج هذا النهج وليس على التقنيات المستخدمة لاستحداث صوره. لكن هذا الوضع بدأ يتغير الآن. فعلى سبيل المثال، في عام 2021، نشر باحثون ضمن مبادرة «تقسيم العضيات الخلوية بالتصوير المجهري الإلكتروني» COSEM في حرم جانيليا للأبحاث في أشبورن بولاية فيرجينيا، ورقتين بحثيتين في دورية Nature تسلطان الضوء على التقدم الكبير الذي أُحرز فيما يتعلق بوضع خرائط لمحتوى الخلايا4، 5. وتقول كولينسون في هذا الصدد: "يُعد هذا إثباتًا مثيرًا للإعجاب لفاعلية هذه التقنيات، من حيث المبدأ".
وتستخدم مبادرة «تقسيم عضيات الخلايا بالتصوير المجهري الإلكتروني» COSEM مجاهر تصوير إلكتروني بالشعاع الأيوني المركز FIB-SEM متطورة ومصممة لمواءمة الغرض منها، من شأنها أن تزيد من حجم المقطع الذي يمكن إجراء تصوير ماسح له في تجربة واحدة بنحو 200 ضعف، مع الاحتفاظ بدقة تصوير جيدة على المستوى المكاني في العينات. وباستخدام مجموعة من هذه الآلات إلى جانب خوارزميات التعلم العميق، تمكن الفريق من التعرف على العديد من العضيات وغيرها من البنى دون الخلوية الأخرى بالحجم الكامل ثلاثي الأبعاد في مجموعة واسعة من أنواع الخلايا.
تتسم طرق تحضير العينات باستخدام هذه التقنيات بأنها شاقة ويصعب إتقانها، ومجموعات البيانات الناتجة عنها هائلة الضخامة. غير أنها تستحق عناء استخدامها. على سبيل المثال، بدأت كولينسون بالفعل تتوصل إلى رؤى جديدة في أبحاثها المتعلقة ببعض الأمراض المُعدية وبيولوجيا السرطان. وتعمل حاليًا مع زملائها على استكشاف جدوى نمذجة بنية دماغ الفأر بالكامل بدقة عالية؛ وهو مجهود بحثي تتوقع أن يستغرق أكثر من عقد من العمل الدؤوب، ويكلف مليارات الدولارات، وينتج نصف مليار جيجابايت من البيانات، بيد أنها توضح مغانمه قائلة : "الأرجح أن هذه الجهود على نفس قدر عظمة الجهود المبذولة لرسم أول خريطة للجينوم البشري".
«كريسبر» في كل مكان
اكتسبت أداة تحرير الجينوم «كريسبر-كاس 9» CRISPR-Cas9 سمعة جيدة مُستَحقة باعتبارها تقنية يمكن التعويل عليها في إدخال تغييرات محددة في مواقع مستهدفة بأي منطقة من الجينوم، وقد فجرت هذه التقنية طفرات غير مسبوقة في مجالات العلاج الجيني، ونمذجة الأمراض، وفي مجالات بحثية أخرى. غير أن ثمة قيود تحد من مواضع الجسم التي يمكن استخدام التقنية فيها. وفي الوقت الراهن، يسعى الباحثون لإيجاد طرق للتغلب على تلك القيود.
وتجدر الإشارة إلى أنه يجري تنسيق عملية التحرير الجيني التي تنهض بها تقنية «كريسبر» بواسطة شريط حمض نووي ريبي دليلي قصير، يوجه إنزيم Cas nuclease نحو التسلسل الجيني المستهدف تعديله. غير أن هذا الإنزيم يحتاج أيضًا إلى تسلسل قريب يعرف باسم النمط التسلسلي المجاور للفاصل الأوَّلِي protospacer-adjacent motif، ويُشار إليه اختصارًا باسم PAM ؛ ودون هذا النمط التسلسلي، من المرجح أن تفشل عملية التحرير الجيني.
ويذكر في هذا السياق، أنه في مستشفى ماساتشوستس العام في بوسطن، استخدم مهندس الجينوم بنجامين كلاينستايفر هندسة البروتينات لإنشاء نوع من إنزيمات Cas "لا يحتاج تقريبًا للنمط التسلسلي المجاور للفاصل الأوَّلِي"، ويختلف عن إنزيم «كاس 9» شائع الاستخدام المأخوذ من بكتيريا العِقْديّة المقيِّحة Streptococcus pyogenes. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا النوع يحتاج إلى نمط تسلسلي مجاور للفاصل الأولي، مكون من ثلاث قواعد نوكليوتيدية فقط، على أن يكون الموضع الأوسط من هذا النمط التسلسلي مكون من الأدينوسين أو الجوانين.6 في ذلك الصدد، يضيف كلاينستايفر عن إنزيمات Cas: "تلك الإنزيمات تقرأ الجينوم بأكمله تقريبًا، بينما تقرأ إنزيمات «كريسبر» التقليدية ما يتراوح بين 1% إلى 10% من الجينوم".
وضعف صرامة هذا الشرط الخاص بالنمط التسلسلي المجاور للفاصل يعزز احتمالية حدوث تعديلات "غير مستهدفة"، غير أنه يمكن للمزيد من الهندسة الوراثية أن تحسن من انتقائية هذه الإنزيمات وقدرتها على الاستهداف. وكنهج بديل، يعمل فريق كلاينستايفر على هندسة واختبار أداء أعداد كبيرة من أنواع إنزيم «كاس 9» Cas9، يُظهر كل منها انتقائية عالية لتسلسلات محددة من فئة النمط التسلسلي المجاور للفاصل الأولي.
هناك أيضًا العديد من أنواع إنزيمات «كاس» الطبيعية التي لم تُكتشف بعد. ففي الطبيعة، يُعد نظام «كريسبر-كاس 9» آلية دفاع بكتيرية ضد العدوى الفيروسية، وقد طورت كائنات حية دقيقة مختلفة إنزيمات متنوعة ذات تفضيلات محددة من النمط التسلسلي المجاور للفاصل الأولي. على سبيل المثال، قامت عالمة الفيروسات آنا سيريسيتو والباحث في مجال الميكروبيومات نيكولا سيجاتا، من جامعة ترينتو في إيطاليا، بفحص أكثر من مليون جينوم ميكروبي للتعرف على مجموعة متنوعة من أشكال إنزيم «كاس 9» وتوصيفها، والتي يقدر العالمان أنها يمكن أن تستهدف معًا أكثر من 98% من الطفرات المعروفة المسببة للأمراض في البشر7.
غير أن عددًا قليلًا فقط من هذه الأنواع يمكن أن يؤدي وظيفته في خلايا الثدييات. فتقول سيريسيتو: "الفكرة التي توصلنا إليها هي أن نختبر أداء العديد من تلك الأنواع لنعرف المحددات التي تجعل هذه الإنزيمات تعمل كما ينبغي". ويرى كلاينستايفر أنه من هذه الأفكار المستوحاة من مجموعات الإنزيمات الطبيعية تلك، وجهود هندسة البروتينات عالية الإنتاجية: "سنتوصل إلى مجموعة كاملة من إنزيمات التحرير الجيني التي تسمح لنا بتعديل أي قاعدة نيوكليوتيدية نستهدفها".
التأريخ عالي الدقة بالكربون المشع
في العام الماضي، اغتنم فريق من علماء الآثار تطورات طرأت على مجال التأريخ بالكربون المشع للوقوف بدقة على العام، بل والفصل، الذي وطأت فيه أقدام مستكشفو الفايكنج لأول مرة الأمريكتين. فباستخدام قطع من أخشاب الأشجار اكتُشِفَت في مستوطنة تقع على الشاطئ الشمالي لمقاطعة نيوفاوندلاند الكندية، انتهى فريق بقيادة خبير تحليل النظائر مايكل دي، من جامعة جرونينجن في هولندا، وباحثة ما بعد الدكتوراة التي يشرف عليها، مارجوت كوتمس، إلى أن هذه الأخشاب قُطِّعَت على الأرجح في عام 1021، وعلى الأرجح في فصل الربيع8.
وقد ظل العلماء يستخدمون التأريخ بالكربون المشع لقطع المواد العضوية الأثرية منذ أربعينيات القرن العشرين لحصر النطاق الزمني لوقت وقوع أحداث تاريخية. وقد عمدوا في القيام بذلك إلى قياس آثار نظير الكربون-14، الذي يتكون نتيجة تفاعل الأشعة الكونية مع الغلاف الجوي للأرض، والذي يتحلل ببطء على مدار آلاف السنين. غير أن تقنية التأريخ هذه أمكن أن تجانب الدقة ببضعة عقود.
لكن تبدلت الأحوال في عام 2012، عندما أثبت باحثون بقيادة الفيزيائية فوسا مياكي من جامعة ناجويا في اليابان أنهم تمكنوا من تأريخ وقت حدوث زيادة حادة ملحوظة في مستويات نظير الكربون-14 في حلقات شجرة أرز يابانية بين عامي 774 و775 ميلاديًا (المرجع 9). ولم تكتف الأبحاث اللاحقة بتأكيد حدوث هذه الزيادة في مستويات هذا النظير في عينات أخشاب من جميع أنحاء العالم تعود إلى هذه الفترة فحسب، بل اكتشفت أيضًا ما لا يقل عن خمس زيادات أخرى مماثلة يعود تاريخها إلى عام 7176 قبل الميلاد (المرجع 10). وقد عزى الباحثون هذه الزيادات إلى نشاط العواصف الشمسية، غير أن هذه الفرضية لا تزال قيد الدراسة.
وأيًا كان السبب الحقيقي وراء هذه الأحداث التي أُطلِق عليها اسم «أحداث مياكي»، فهي تتيح للباحثين الوقوف بدقة على العام الذي صُنِعت فيه القطع الخشبية الأثرية، عن طريق الوقوف على أحد «أحداث مياكي» هذه، ثم إحصاء الحلقات الشجرية التي تشكلت منذ وقوع ذلك الحدث، بل يمكن للباحثين أيضًا تحديد الفصل الذي حُصِدَت فيه شجرة ما، على أساس سُمك حلقتها الخارجية، على حد قول كوتمس.
ويستخدم علماء آثار الآن هذه التقنيات مع مستوطنات من العصر الحجري الحديث ومواقع ثوران بركاني، ويأمل دي في استخدامها في دراسة حضارة إمبراطورية المايا في منطقة وسط أمريكا. ويحدوه الأمل بأنه خلال العقد القادم أو نحو ذلك "ستغدو لدينا سجلات حاسمة بلا شك لتاريخ هذه الحضارات القديمة، تقف بدقة على أحداثها بالعام، وسنتمكن من التحدث عن تطورها التاريخي ... بناءً على قياسات زمنية صارمة في دقتها".
أما مياكي، فلا يزال بحثها عن مؤشرات زمنية أخرى مستمرًا. وتقول: "نبحث اليوم عن زيادات حادة أخرى في مستوى نظير الكربون-14، حدثت خلال العشرة آلاف سنة الماضية وتشبه أحداث الزيادة في مستويات هذا النظير التي حدثت بين عامي 774 و775".
ميتابولوميات الخلية المفردة
في الأساس، نشأ علم الميتابولوميات (دراسات نواتج الأيض)، الذي يتناول الدهون والكربوهيدرات والجزيئات الصغيرة الأخرى التي تحفز وظائف الخلية، كمجموعة من الأساليب التي يمكن الاستعانة بها لتوصيف نواتج الأيض في مجموعة من الخلايا أو الأنسجة، ولكنه يتحول الآن إلى دراسات على مستوى الخلية المفردة. ويمكن للعلماء استخدام هذه البيانات على المستوى الخلوي لفك غموض التعقيد الوظيفي الذي يميز مجموعات كبيرة من الخلايا التي تبدو متماثلة. إلا أن هذا التحول يضعنا أمام تحديات هائلة.
إذ يحتوي الميتابولوم (مجموع نواتج الأيض في جسم الكائن الحي) على أعداد كبيرة من الجزيئات ذات الخصائص الكيميائية المتنوعة. وحول ذلك، يقول ثيودور ألكسندروف، الباحث في الميتابولوميات من المختبر الأوروبي للبيولوجيا الجزيئية في هايدلبرج بألمانيا، إن بعض هذه الجزيئات سريع الزوال، ويتسم بمعدلات أيض أو استقلاب تقل عن الثانية الواحدة. كذلك قد يصعب اكتشاف هذه الجزيئات؛ فبما إن تقنية تعيين تسلسل الحمض النووي الريبي على مستوى الخلية المفردة يمكن أن تكتشف ما يقرب من نصف جزيئات الحمض النووي الريبي المُنتَجة في الخلية أو الكائن الحي (الترانسكريبتوم)، فإن أغلب التحليلات الأيضية لا تشمل سوى جزء ضئيل من نواتج أيض الخلية. ويمكن أن تؤدي هذه المعلومات المفقودة إلى إغفال رؤى بيولوجية متعمقة مهمة.
في ذلك الصدد، يقول جوناثان سويدلر، اختصاصي علم الكيمياء التحليلية من جامعة إلينوي في أوربانا-شامبين: "الميتابولوم هو في واقع الأمر الجزء النشط من الخلية". ويضيف قائلًا: " إذا أردنا معرفة حالة الخلية في أثناء المرض، فما نحتاجه حقًا هو إلقاء نظرة على نواتج أيض الخلية".
وتجدر الإشارة إلى أن العديد من مختبرات دراسة نواتج الأيض تستخدم خلايا منفصلة عن بعضها البعض، حيث تحتجزها في أوعية شعرية وتحللها كل على حدة باستخدام مقياس الطيف الكتلي. وعلى النقيض، فإن تقنيات «التصوير الطيفي الكتلي» ترصد معلومات مكانية بشأن التباين في إنتاج نواتج الأيض الخلوية في مواقع مختلفة من العينات. ومن أمثلة هذه التقنيات، تقنية يستخدمها الباحثون تُعرف باسم التأيين/ إزالة الامتصاص الليزري بمساعدة مصفوفة خلوية matrix-assisted laser desorption/ionization (وهي تقنية يشار إليها اختصارًا باسم MALDI)، وفيها يمسح شعاع من الليزر شريحة من النسيج مُعالجة بطريقة خاصة، ويطلق نواتج الأيض لتحليلها لاحقًا باستخدام قياس الطيف الكتلي. وترصد هذه التقنية أيضًا الإحداثيات المكانية أو المواقع التي نشأت منها نواتج الأيض في العينة.
ومن الناحية النظرية، يمكن لكلا النهجين قياس مستويات مئات المركبات في آلاف الخلايا، غير أن تحقيق ذلك يتطلب عادةً أجهزة عالية التقنية ومصممة خصيصًا لهذا الغرض، تقدر تكلفتها بملايين الدولارات، حسبما يقول سويدلر.
ويحاول باحثون حاليًا نشر تلك التقنية على نطاق واسع لتصبح متاحة للجميع. على سبيل المثال، في عام 2021، استعرض فريق ألكسندروف البحثي تطبيق «سبيس إم» SpaceM، وهو أداة برمجية مفتوحة المصدر تستخدم بيانات التصوير بالمجهر الضوئي لتمكين توصيف نواتج الأيض مكانيًا في الخلايا المستنبتة باستخدام مقياس الطيف الكتلي التجاري القياسي11. ويقول ألكسندروف معقبًا على آفاق هذه التقنية: "يبدو أننا نوعًا ما قد أنجزنا الجزء الشاق من المهمة على صعيد تحليل البيانات".
استخدم فريق ألكسندروف تطبيق «سبيس إم» لتوصيف مئات من نواتج الأيض المأخوذة من عشرات الآلاف من الخلايا البشرية وخلايا الفئران، متجهًا في ذلك نحو استخدام تقنيات دراسة الترانسكربتوم القياسية (دراسة عمليات نسخ الحمض النووي) على مستوى الخلية المفردة من أجل تصنيف تلك الخلايا إلى مجموعات. ويقول ألكسندروف إنه متحمس للغاية لهذا الإنجاز الأخير، ولفكرة تجميع "أطالس ميتابولومية"، مماثلة لتلك التي وُضِعَت لعلم دراسة الترانسكربتوم، بهدف إسراع خطى التقدم في هذا المجال. ويختتم كلامه قائلًا: "لا شك أن هذه هي جبهة العمل المناسبة، وستخدمنا إلى حد كبير".
نماذج أجنة مختبرية
لقد وضع العلماء بالفعل خريطة تفصيلية للرحلة التي تقطعها البويضة المخصبة انتهاءً إلى جنين مكتمل التكوين على المستوى الخلوي بين الفئران والبشر على حد سواء. غير أن الآلية الجزيئية التي توجه المراحل الأولى لهذه العملية لا يزال يكتنفها الغموض. إلا أنه في الوقت الراهن، تساعد موجة من عمليات نمذجة النشاط «في المضغات الجنينية» على سد هذه الفجوات المعرفية، مانحةً الباحثين رؤية أوضح لأولى الأحداث الحيوية التي يمكن أن تحسم نجاح أو فشل النمو الجنيني.
ويأتي بعض من النماذج الأكثر تعقيدًا وتفصيلًا في هذا السياق من مختبر ماجدالينا زرنيكا-جويتز، اختصاصية علم البيولوجيا النمائية من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في باسادينا وجامعة كامبريدج بالمملكة المتحدة. ففي عام 2022، أثبتت مع فريقها أنه بالإمكان إنتاج أجنة فئران في مرحلة الغرس بالاعتماد بالكامل على خلايا جذعية جنينية (ES).
وتبين أنه على غرار جميع الخلايا الجذعية متعددة القدرات، يمكن للخلايا الجذعية الجنينية أن تشكل أي نوع من الخلايا أو الأنسجة؛ ولكنها تحتاج إلى تفاعل وثيق مع نوعين من الخلايا المحيطة بالجنين لاستكمال التطور الجنيني الطبيعي. وقد تعلم فريق زرنيكا-جويتز كيفية حث الخلايا الجذعية الجنينية على تشكيل تلك الخلايا الجنينية المحيطة بالجنين، وأثبتوا أنه يمكن استزراع تلك الخلايا مع الخلايا الجذعية الجنينية لإنتاج نماذج جنينية تنضج لتصل إلى مراحل لم يكن من الممكن الوصول إليها من قبل مختبريًا. وتعقب زرنيكا-جويتز على هذا الإنجاز قائلة: "إنها نماذج تحاكي بدقة الأجنة الطبيعية إلى أقصى حد يمكن تخيله في نموذج جنيني". وتضيف قائلة: "ينمو للجنين رأس وقلب؛ قلب ينبض بالفعل". وقد استطاع فريقها استخدام هذه النماذج لكشف الكيفية التي يمكن بها للتغييرات التي تطرأ على جينات مفردة أن تعرقل التطور الجنيني الطبيعي12.
وفي معاهد جوانجتشو للطب الحيوي والصحة التابعة للأكاديمية الصينية للعلوم، يسلك عالم أحياء الخلايا الجذعية ميجيل إستيبان وفريقه البحثي مسارًا مختلفًا، ألا وهو: إعادة برمجة الخلايا الجذعية البشرية لنمذجة المراحل الأولى لنمو الجنين.
وعن ذلك، يقول إستيبان: "بدأنا بفكرة مفادها أنه قد يسنح لنا حتى تكوين بويضات مخصبة". ولم يتمكن الفريق البحثي من تحقيق ذلك تمامًا، لكنه اكتشف استراتيجية استنبات حفزت تلك الخلايا الجذعية على تكوين ما يشبه أجنة بشرية مكونة من ثمان خلايا14. وتُعد هذه نقطة حاسمة في نمو الأجنة، وترتبط بتغيرات هائلة في التعبير الجيني، تؤدي في النهاية إلى نشأة سلالات خلوية متمايزة جنينية ومحيطة بالجنين.
وعلى الرغم من أن نماذج إستيبان الجنينية غير مثالية، إلا أنها تظهر السمات الرئيسية للخلايا في الأجنة الطبيعية المكونة من ثمان خلايا. كما أنها سلطت الضوء على الاختلافات المهمة بين الكيفية التي تبدأ بها أجنة البشر وأجنة الفئران الانتقال إلى مرحلة الخلايا الثمانية. في ذلك الصدد، يقول إستيبان: "وجدنا عامل نسخ لا يجري حتى التعبير عنه الفئران هو الذي ينظم التحول بالكامل".
ويمكن لهذه النماذج مجتمعة أن تساعد الباحثين على وضع خريطة للكيفية التي ينشأ بها التكوين المعقد المذهل لأجسام الفقاريات من بضع خلايا قليلة للغاية.
ويُحظر إجراء الأبحاث على الأجنة البشرية بعد 14 يومًا من استنباتها في العديد من البلدان، ولكن ثمة الكثير مما يمكن للباحثين تحقيقه في أثناء هذه الفترة الزمنية المحدودة. ويقول إستيبان إن نماذج الرئيسيات غير البشرية تخدم كأحد البدائل المحتملة لاستنبات الأجنة عند إجراء هذه الأبحاث، وترى زرنيكا-جويتز إن استراتيجيتها التي تستخدمها مع أجنة الفئران يمكن أيضًا أن تنتج أجنة بشرية تنمو حتى اليوم الثاني عشر. وتقول: "لا يزال لدينا الكثير من الأسئلة التي تحتاج للإجابة عنها خلال تلك المرحلة المسموح لنا فيها بدراستها بأريحية".
doi:10.1038/nmiddleeast.2024.2
1. Swaminathan, J. et al. Nature Biotechnol. 36, 1076–1082 (2018).
2. Reed, B. D. et al. Science 378, 186–192 (2022).
3. Brinkerhoff, H., Kang, A. S. W., Liu, J., Aksimentiev, A. & Dekker, C. Science 374, 1509–1513 (2021).
4. Heinrich, L. et al. Nature 599, 141–146 (2021).
5. Xu, C. S. et al. Nature 599, 147–151 (2021).
6. Walton, R. T., Christie, K. A., Whittaker, M. N. & Kleinstiver, B. P. et al. Science 368, 290–296 (2020).
7. Ciciani, M. et al. Nature Commun. 13, 6474 (2022).
8. Kuitems, M. et al. Nature 601, 388–391 (2022).
9. Miyake, F., Nagaya, K., Masuda, K. & Nakamura, T. Nature 486, 240–242 (2012).
10.Brehm, N. et al. Nature Commun. 13, 1196 (2022).
11.Rappez, L. et al. Nature Methods 18, 799–805 (2021).
12.Amadei, G. et al. Nature 610, 143–153 (2022).
13.Lau, K. Y. C. et al. Cell Stem Cell 29, 1445–1458 (2022).
14.Mazid, M. A. et al. Nature 605, 315–324 (2022).
تواصل معنا: