فيكتور أمبروس وجاري روفكون يحصدان جائزة نوبل في الطب لعام 2024
07 October 2024
نشرت بتاريخ 7 يونيو 2024
من سوريا، خرج عارف كيَّالي طالبًا الأمن ومواصلة مسيرته البحثية.. ومن رحلته تعلَّم المثابرة والجَلَد. "لا تيأس"، هذه نصيحته.
"لا تيأس"، مبدأ حاكم في حياة عارف كيَّالي، لا يحيد عنه. قد تبدو إكليشيهًا، أو شعارًا فارغًا، أو كلمةً مستهلكة؛ لكنه في خضمِّ رحلته بحثًا عن مكانٍ آمنٍ وعمل مستقر، واجه مع زوجته أهوالًا، امتحنت إيمانهما بهذا المبدأ كأقسى ما يكون الامتحان. فقد حِيلَ بينه وبين أسرته، ورأى مكان عمله ينفجر أمام عينيه، وتعرَّض للإصابة، وحُمل حَملًا على طلب اللجوء السياسي ببلد أجنبي، وهو الذي لم يكن يكره شيئًا كالخروج من وطنه لاجئًا.
وُلد كيَّالي في عام 1978 بمدينة حَلَب السُّورية؛ تلك المدينة التي عُرفت وقتذاك ببازاراتها السياحية، وقلعتها التليدة، قبل أن تُعرف فيما بعدُ بأنها المدينة التي مزَّقتها الحرب. دَرَس الكيمياء التطبيقية بجامعة حَلَب، والتقى زوجته، رزان، في عام 2006، قبل أن يغادر إلى مصر، طلبًا للحصول على درجة الدكتوراه في الكيمياء الحيوية من جامعة القاهرة.
وعندما عاد رفقة زوجته إلى سوريا في عام 2009، ما لبث أن عمل باحثًا في مصنع، كان من أكبر مصانع إنتاج الخميرة السورية. وفي الأثناء، كان يُحاضر بنظام الدوام الجزئي في الجامعة التي تخرَّج فيها. بدا أن كلَّ شيءٍ كان على ما يُرام. لكن سرعان ما اندلعت الثورة السورية في عام 2011، وانزلقت البلاد في أتون حرب أهلية، واقتطع المتحاربون – الذين تعدَّدت رؤاهم واختلفت توجُّهاتهم كل الاختلاف، من الجيش السوري الحُر إلى تنظيم «داعش» – اقتطعوا من الأراضي السورية مساحاتٍ شاسعة. وكان المصنع الذي يعمل به كيَّالي يقع على مقربة من قاعدةٍ عسكرية تابعة للجيش السوري النظامي، فأغرى هذا القربُ الجماعات المسلحة المعارضة للنظام باستغلال أراضي المصنع في إطلاق الصواريخ على القاعدة العسكرية؛ ما يعني أن المصنع قد تحوَّل بدوره إلى هدفٍ عسكري للقوات النظامية.
يتذكَّر كيَّالي هذه الأيام قائلًا: "كنَّا نتنقَّل [ذهابًا إلى المصنع وإيابًا منه] بينما كانت الاشتباكات على أشُدِّها؛ ذلك أننا إنْ توقفنا [عن تشغيل المصنع]، فمعنى ذلك أنه لن يكون هناك خبز. وعليه فقد وجدنا أنفسنا مضطرين إلى العمل وسط هذه الظروف سبعة شهور، أو ثمانية. وشدَّ ما كانت ظروفًا عصيبة! كنا نرى أناسًا يموتون في الشارع، وليس في وسعنا أن نفعل شيئًا. واصلنا العمل حتى دُمِّر المصنع عن آخره، إثر تعرُّضه للقصف بالطائرات الحربية".
ثم كان أن تكاثرت على كيَّالي الصعوبات المتصلة بالمال، أو بقلَّته في الواقع. يقول: "لم أكن على ذمة عمل حقيقي؛ اللهم إلا عملي في الجامعة بنظام الدوام الجزئي، في الوقت الذي شهد هبوطًا في قيمة العملة المحلية". انخفضت قيمة مرتَّبه الشهري مما يُعادل نحو 400 دولار أمريكي، إلى حدود الخمسين دولارًا. يقول: "لم يكن في مقدوري شراء أي شيء". ورغم هذه الضغوط المالية، سعى كيَّالي – ما استطاع إلى السعي من سبيل – إلى ألا يخرج من سوريا؛ فقد كان "وحيد أبويه"، كما قال. ولكن عندما تعرَّض لإصابة بالغة، ألمَّت به إثر انفجار عنيف، لم يجد بدًّا – هو وزوجته وطفلاه – من الخروج. ثم كان أن رُزق بُعَيد الخروج بطفل ثالث.
راح يُراسل جميع مَن يعرف – وكثيرين ممن لا يعرف – ممن يعملون بالجامعات الأجنبية. وفي مرحلةٍ ما، تلقَّى عرضًا للعمل في ليبيا، لكن هذه الفرصة ضاعت عليه قبل أن يتمكَّن من السفر. يقول: "وأنا أستذكر الآن، أعتقد أنني كنتُ محظوظًا أنْ حدث هذا"، في إشارةٍ إلى أن ليبيا كانت في طريقها إلى السقوط في هوَّة حربها الأهلية الثانية في عام 2014.
من بين خمسين رسالةً إلكترونية بعث بها كيَّالي، أو نحو ذلك، وجدت رسالة سبيلها إلى صندوق الوارد الخاص برابطة الدفاع عن الأكاديميين المهدَّدين، التي يُشار إليها بالاسم المختصر «كارا» Cara، وهي منظمة تتخذ من المملكة المتحدة مقرًّا لها، تسعى إلى تقديم الدعم والمساعدة للباحثين من جميع أرجاء العالم، الذين يُضطرُّون إلى الفرار على خلفية تعرُّضهم للسَّجن أو الإصابة أو الموت. تعمل المنظمة على إيجاد فُرَص عمل للباحثين الذين هم على شاكلة كيَّالي في بلدانٍ آمنة، وذلك عبر تقديم الدعم المالي والعَمَلي الخليق بتحقيق هذا الهدف. ولأنَّه لم يتلقَّ ردًّا من أكثر الأشخاص الذين راسلهم، فقد وقع اتصال رابطة «كارا» به، في عام 2014، منه موقع المفاجأة. ثم حزم أمتعته إلى المملكة المتحدة في وقتٍ لاحق من العام نفسه. يقول: "كان ذلك بمثابة باب فُتح لي".
كان زيد البياتي، نائب رئيس الرابطة، على الطرف الآخر من الهاتف، وكان إذ ذاك على اتصالٍ بعدد من الباحثين السوريين الآخرين. يقول: "عندما سمع الباحثون السوريون برابطة «كارا»، وقر في نفوسهم أن هذه الفرصة كانت من الروعة بحيث لا يمكن أن تكون واقعية، بل وساورَتْ بعضَهم شكوك". ولكن ما إن التحقت أول دفعة من الباحثين السوريين ببرنامج الزمالة الذي نظَّمَته الرابطة، حتى سارعوا إلى "إخبار أترابهم في سوريا، ونَجَمت عن ذلك زيادة كبيرة في طلبات التقديم. وكان كيّالي ضمن الموجة الأولى" من الملتحقين بالبرنامج، على حد قول البياتي.
وصل عدد الطلبات المقدَّمة للبرنامج في أوج الحرب الدائرة رحاها في سوريا إلى نحو عشرين طلبًا كل أسبوع، حسبما أفاد البياتي. وعندما شنَّت روسيا حربًا على أوكرانيا، توقَّع البياتي ورفاقه تدفقًا مماثلًا للطلبات المقدَّمة من الباحثين الأوكران لمغادرة بلادهم؛ لكن هذه المرة لم تكن كسابقتها. يقول البياتي: "وفَّرنا للأوكرانيين عددًا من فرص العمل بجامعات [المملكة المتحدة]، لكنهم لم يحضروا [إلى بريطانيا] لأنهم لاحت لهم فُرَصٌ أخرى في أنحاء أخرى من القارة [الأوروبية]، فآثروا الذهاب إلى ألمانيا". وأضاف: "أرجو ألا تسيء فهمي: من الرائع أن نرى تأشيرات الدخول تُتاح بهذه السهولة للأوكرانيين، لتُتاح أمامهم خيارات مختلفة؛ كلُّ ما هنالك أننا كنا نودُّ لو أُخذ بالنهج نفسه في التعامل مع غيرها من البلدان التي تمزقها الصراعات".
أكثر الطلبات المقدَّمة إلى الرابطة في الوقت الراهن تأتي من باحثين في الأراضي الفلسطينية والسودان، حسبما أفاد البياتي.
لم يمضِ على الاتصال الأول بين البياتي وكيّالي ستة أشهر، إلا وكان الأخير على متن الطائرة التي حطَّت به في المملكة المتحدة. ساعدَته الرابطة على تأمين تأشيرة الدخول، والعثور على وظيفة «باحث مشارك» لدى المركز الدولي لعلم التخمير، التابع لجامعة نوتنجهام. لكن تجهيز أوراق زوجته وأبنائه استغرق ثمانية أشهر أخرى. ويروي كيالي كيف كان السفر بدون أسرته عسيرًا على نفسه. يقول: "لك أن تتخيَّل حالي وأنا أتابع الأخبار. كان وقتًا عصيبًا بكل ما تحمل الكلمة من معنًى".
بعد قضاء عام في نوتنجهام، ارتحل كيالي إلى كلية الطب التابعة لجامعة ساوثامبتون، حيث أمضى بضع سنوات زميلًا بحثيًّا، قبل أن يساهم في إنشاء مختبر لدعم دراسة طولية مخصصة لبحث أمراض الحساسية، هي الدراسة المسمَّاة «مواليد نفس الفترة بجزيرة وايت» Isle of Wight Birth Cohort. يقول: "هكذا عدتُ إلى العمل في مجال الربو والحساسية".
هذا التقافز بين الوظائف والأمكنة لم يُقصد به تحسينُ سيرته المهنية. يقول كيّالي إنه، في واقع الأمر، لم يكن يملك ترف التفكير من هذه الزاوية؛ ذلك أن أي فجوةٍ في مسيرته العملية وقتذاك كان يمكن أن تعرِّضه لخطر إلغاء إقامته في بريطانيا، وحينها لم يكن ليجد أمامه إلا العودة إلى سوريا، أو طلب اللجوء السياسي. وهو ما ألجأه غير مرةٍ إلى القفز من وظيفةٍ لأخرى عند نضوب التمويل الأكاديمي، أو عندما بدا أنه غير مستقر.
لم يمرَّ وقتٌ طويل قبل أن يشتدَّ عليه الخناق، وتضيق حوله الدائرة: فقد اقترب تاريخ انتهاء صلاحية جواز سفره السوري، ولكي يتسنَّى له الاحتفاظ بتأشيرة العمل البريطانية، لم يكن بدٌّ من العودة إلى سوريا لتجديد جواز سفره. أُسقِط في يده، وما كان منه إلا أن تقدَّم بطلب اللجوء السياسي إلى المملكة المتحدة.
استغرق الأمر عامين ونصف العام، وفقًا لما ذكره كيَّالي، حتى جاء رد الحكومة البريطانية بالسماح له بالبقاء لاجئًا سياسيًّا. ليس هذا غريبًا على نظام اللجوء السياسي المعمول به في بريطانيا؛ ففي تقرير صدر في عام 2021 عن «هيئة اللاجئين» Refugee Council، وهي منظمة خيرية بريطانية، وَرَدَ أن عدد الأشخاص المدرجين على قوائم انتظار الرد المبدئي لطلب اللجوء مدةً تربو على العام قد ارتفع من 3,588 شخصًا في عام 2010 إلى 33,016 في عام 2020.
يعمل كيَّالي هذه الأيام محاضرًا للعلوم الطبية البيولوجية بجامعة سولنت في مدينة ساوثامبتون البريطانية. وهو يُنفق جُلَّ وقته في التدريس، إلا أنه يقتطع من وقته شطرًا لدراسة المؤشرات الحيوية الجزيئية للأمراض الصعبة أو العصيَّة على التشخيص، مثل أمراض السرطان والحساسية.
إنه يستمتع بعمله، والأهم، حسب قوله، أنه عمل ثابت. لكنه عندما ينظر في سيرته المهنية، يجد أن ظروف هجرته، والوضع الجيوسياسي في الشرق الأوسط، كان لهما أكبر الأثر في تقييد خياراته. فلو أنه مُكِّن من الحصول على وظيفة ثابتة لدى أول قدومه إلى بريطانيا، لكان راتبه السنوي قد وصل، كما يعتقد، إلى ما لا يقل عن 70 ألف جنيه استرليني (ما يعادل 87 ألف دولار أمريكي). وهو لا يتقاضى الآن إلا "نصف هذا المبلغ"، حسب قوله. وأضاف: "لي أصدقاء بدأوا بعدي بأربع سنوات أو خمس، ورواتبهم الآن تفوق راتبي".
على أن المسألة أكبر من مجرد مسألة نقود. يقول: "لو أنك عكفتَ على إجراء أبحاثك في مجال واحد طيلة ثماني سنوات، لأصبحت خبيرًا في هذا المجال. أما تنقُّلك بين المجالات مرةً كل سنتين، فهذا وإن كان يوسِّع نطاق مهاراتك، إلا أنه يجعلك أقلَّ جاذبية، إنْ تقدَّمتَ لطلب تمويل بحثي، أو لشغل وظيفة".
ولكن هنا يتجلَّى "المبدأ الحاكم" الذي يضعه كيَّالي نُصب عينيه.
يقول: "إذا كنتَ شغوفًا بالبحث والعلم، فنصيحتي لك هي ألا تيأس. لقد كنتُ قاب قوسين أو أدنى من اليأس في عام 2013، قبل أن أتواصل مع رابطة «كارا»، لأن كل الطُّرق كانت تبدو لعيني مسدودة، والأبواب موصدة". وها هو الآن يعمل عملًا يحبه، وأولاده سعداء بمدارسهم الإنجليزية، وزوجته تشعر بالاندماج في المجتمع البريطاني. أما أبواه، فقد مرَّت سنوات عدَّة منذ رآهما لآخر مرة، لكنه يأمل في أن يُمكَّن من لقائهما عمّا قريب.
يقول: "إنْ كان عليك أن تغيِّر مجالك، فلتغيِّره. ولتغيِّر وظيفتك إن لم يكن من تغييرها بُد. المهم أن تواصل المَسِير، وأن تظل قابضًا على حُلمك في رأسك، حتى تسنح لك فرصة إخراجه إلى أرض الواقع".
يرى كيَّالي أن هذه العقلية هي ما مكَّنته من الاحتفاظ بعزة نفسه وكبريائه وهو يخوض أوقاتًا عصيبة. ويقول: "ليس في مقدورك أن تغيِّر مجرى الحياة لتتبعك؛ عليك أن تتبع الحياة. فالأمر أشبه ما يكون بالإبحار: لا تستطيع التحكُّم في الريح، لكن يمكنك التحكُّم في الشراع".
أسئلة سريعة
ما القول المأثور المفضَّل لديك؟
"ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا": هذه أحبُّ الآيات القرآنية وأقربها إلى نفسي، فهي تُظهر قيمة حياة الإنسان في الإسلام. ليس عليك أن تكون مسلمًا لترى ما في هذه العبارة من جمال. وأعتقد أنها ترفع الضغوط عن كاهلك، عندما تكون مثقلًا بمشاكل العالم الكبرى، مثل الحروب. ليس عليك أن تصلح العالم؛ كلُّ ما عليك هو أن تحسِّن الأمور إن استطعت، وحيثما تستطيع.
إذا لم تكن عالمًا، ماذا كنتَ تحب أن تكون؟
طبيبًا أو صيدلانيًّا، فمساعدة الناس على محاربة المرض هي أكثر ما يستهويني. أعتقد أن هذا كان دافعي إلى دراسة الحساسية فيما مضى، وهذا ما يدفعني إلى التركيز على المؤشرات الحيوية للأمراض الآن.
ما أكثر ما تفتقده في سوريا؟
أبي وأمي، وأختي، وأصدقائي. مما يصعُب على النفس جدًّا أن نفترق، وتفصل بيننا كل هذه المسافات، ولا يكون من الميسور أن نستقلَّ أول طائرة لنلتقي، ويرى أحدنا الآخر.
ما أكثر ما يعجبك في العيشة بالمملكة المتحدة؟
الانفتاح على الآخر، وهي خصلة غالبة على هذا المجتمع أفرادًا ومؤسسات. هذا أمرٌ مقدَّر حقًّا، خاصةً بالنسبة إلى شخصٍ خرج لتوِّه من حربٍ أهلية.
لو أتيح لك أن تعود بالزمن لتلقى نفسك في يوم حصولك على الدكتوراه، ما النصيحة التي كنتَ ستُسديها إلى نفسك؟
الحقَّ أقول لك، كنتُ سأنصح نفسي بعدم العودة من القاهرة إلى سوريا. كنتُ سأقول لنفسي: ارحل عن سوريا، وخذ أسرتك معك. هذا القرار تأخَّر كثيرًا.
* هذه ترجمة للمقالة الإنجليزية المنشورة بدورية Nature بتاريخ 8 مايو 2024.
doi:10.1038/nmiddleeast.2024.172
تواصل معنا: