مقالات

نوبل الكيمياء عامَ 1948.. فنُّ فصلِ مكوناتِ المصلِ المعقدة

نشرت بتاريخ 13 يناير 2024

عرفَ العلماءُ منذُ قرونٍ أنَّ معظمَ موادِّ الكونِ تتكونُ في الأساسِ منْ بضعةِ عناصرَ يتحدُ بعضُها معَ بعضٍ لتشكيلِ الوجود. وعرفُوا أيضًا أنَّ دراسةَ الوجودِ تبدأُ بتفكيكِه.

محمد منصور

للأستماع للحلقة أضغط على هذا الرابط

حينَ تشعرُ بالعطش؛ وتملأُ كوبًا منَ الماء؛ قدْ يستدعي خيالُك أنَّ ما تشربُه منْ سائلٍ هوَ في الأساسِ غازانِ اثنان -هيدروجين وأكسجين- اتحدا معًا لتكوينِ ما يملأُ كوبَك ويروي عطشَك.

عرفَ العلماءُ منذُ قرونٍ أنَّ معظمَ موادِّ الكونِ تتكونُ في الأساسِ منْ بضعةِ عناصرَ يتحدُ بعضُها معَ بعضٍ لتشكيلِ الوجود. وعرفُوا أيضًا أنَّ دراسةَ الوجودِ تبدأُ بتفكيكِه.

في الكيمياء؛ يُعَدُّ فنُّ فصلِ مكوناتِ المركبات، المعروفُ أيضًا باسمِ التحليلِ الكيميائيِّ، ممارسةً أساسيةً للتحقيقِ المنهجيِّ وتحديدِ المكوناتِ أوِ الموادِّ المختلفةِ الموجودةِ داخلَ مركبٍ أوْ خليطٍ معين.

وعبرَ العصور؛ تطورَ فنُّ فصلِ مكوناتِ المركبات، لكنْ لمْ تكنْ جهودُ الباحثينَ، في كثيرٍ منَ الحالات، قادرةً على فصلِ الموادِّ المكونةِ منْ جزيئاتٍ كبيرةٍ دونَ تغييرِ طبيعةِ هذهِ الجزيئاتِ في سياقِ التجارب.

لذا؛ تركزَ اهتمامُ الباحثينَ في القرنِ العشرينَ على تفكيكِ تلكَ الموادِّ التي تؤدي دورًا كبيرًا في بيولوجيا أجسامِنا؛ منْ ضمنِ تلكَ الموادِّ كانتِ البروتيناتُ والبوليمراتُ الكربوهيدراتيةُ التي تؤدي دورًا رئيسيًّا في العملياتِ الحيوية؛ الأولُ في الحياةِ الحيوانية، والثاني في الحياةِ النباتية.

ومنْ بينِها أيضًا الموادُّ الاصطناعية، بما في ذلكَ أنواعٌ مختلفةٌ منَ المطاطِ الصناعي، والموادِّ العازلة، والبلاستيك، والموادِّ المضغوطة، والمنسوجاتِ الجديدة، وغيرِها منَ المنتجاتِ التي تزدادُ أهميتُها العمليةُ يومًا بعدَ يوم.

والآنَ؛ هناكَ العديدُ منَ التقنياتِ والمنهجياتِ المستخدمةِ في التحليلِ الكيميائيِّ، كلٌّ منها يناسبُ أنواعًا مختلفةً منَ المركباتِ والأهدافِ التحليلية، يمكنُ تصنيفُ هذهِ الأساليبِ على نطاقٍ واسعٍ إلى فئتينِ هما التحليلُ النوعيُّ والتحليلُ الكمِّي.

ويركزُ التحليلُ النوعيُّ على تحديدِ وجودِ أوْ عدمِ وجودِ أنواعٍ كيميائيةٍ معينةٍ داخلَ العينة. يتضمنُ استخدامَ اختباراتٍ مختلفة، مثلَ تفاعلاتِ الألوان، أوْ تكوينِ الراسب، أوِ التحليلِ الطيفي، لتحديدِ طبيعةِ المكوناتِ الموجودة. يساعدُ التحليلُ النوعيُّ في التعرفِ على الموادِّ غيرِ المعروفة، وتأكيدِ وجودِ المركباتِ المرغوبة، أوِ الكشفِ عنِ الشوائب.

منْ ناحيةٍ أخرى، يهدفُ التحليلُ الكمِّيُّ إلى تحديدِ التركيزِ الدقيقِ أوْ كميةِ مادةٍ معينةٍ داخلَ العينة. يتضمنُ ذلكَ تقنياتِ قياسٍ دقيقة، مثلَ المعايرةِ بالتحليلِ الحجمي، أوِ التحليلِ الطيفي، أوِ اللوني، أوْ قياسِ الطيفِ الكتلي، لتحديدِ كميةِ تحليلٍ معين. يُعَدُّ التحليلُ الكميُّ ضروريًّا في مختلِفِ المجالات، بما في ذلكَ المستحضراتُ الصيدلانيةُ والمراقبةُ البيئيةُ وعلومُ الطبِّ الشرعيِّ ومراقبةُ الجودةِ في الصناعات.

وفي عام ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثمانيةٍ وأربعينَ مُنحتْ جائزةُ نوبل في الكيمياءِ للعالِمِ "آرني تيسيليوس" لعامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثمانيةٍ وأربعينَ لأبحاثِه حولَ تطويرِ طريقتينِ جديدتينِ كُليًّا في التحليلِ الكيميائيِّ هما "الرحَلانُ الكهربائيُّ" و"الامتصاصُ" ما ساهمَ في اكتشافاتِه المتعلقةِ بالطبيعةِ المعقدةِ لبروتيناتِ المصل.

فقدْ تمكنَ "تيسيليوس" منْ فصلِ الجزيئاتِ المشحونةِ بناءً على هجرتِها في مجالٍ كهربائي. تستغلُّ تلكَ التقنيةُ مبدأَ أنَّ الجسيماتِ المشحونةَ ستتحركُ عندَ تعرُّضِها لمجالٍ كهربائي، إذْ يعتمدُ معدلُ الحركةِ على شحنتِها وحجمِها وشكلِها.

وفي الرحلانِ الكهربي، توضعُ عينةٌ تحتوي على خليطٍ منَ الجزيئاتِ في مادةٍ هلاميةٍ أوْ مصفوفةٍ مسامية. ثمَّ يتمُّ تطبيقُ تيارٍ كهربائيٍّ عبرَ الهلام، مكونًا مجالًا كهربائيًّا. تهاجرُ الجزيئاتُ المشحونةُ داخلَ العينة، مثلَ البروتيناتِ أوِ الأحماضِ النوويةِ أوِ الكربوهيدرات، والتي كانَ فحصُها يستعصي قبلَ استخدامِ تلكَ الطريقة، عبرَ مصفوفةِ الهلامِ باتجاهِ القطبِ الكهربائيِّ للشحنةِ المعاكسة.

يحدثُ الفصلُ لأنَّ الجزيئاتِ ذاتِ الشحناتِ والأحجامِ المختلفةِ تواجهُ مستوياتٍ مختلفةً منَ المقاومةِ داخلَ الهلام. تتحركُ الجزيئاتُ الأصغرُ أوْ تلكَ ذاتِ نسبةِ الشحنةِ إلى الكتلةِ الأعلى بسرعةٍ أكبرَ خلالَ الهلام، بينما تتحركُ الجزيئاتُ الأكبرُ أوْ تلكَ التي تحتوي على نسبةِ شحنةٍ إلى كتلةٍ منخفضةٍ بشكلٍ أبطأ. تؤدي هذهِ الهجرةُ التفاضليةُ إلى فصلِ الجزيئاتِ إلى نطاقاتٍ أوْ مناطقَ متميزةٍ داخلَ الهلام.

لكنَّ تلكَ الطريقةَ واجهتِ الكثيرَ منَ العقبات. فقدِ استعصى على العلماءِ استخدامُها لفصلِ المكوناتِ الرئيسيةِ لبروتيناتِ المصلِ بناءً على شحنتِها الكهربائية.

لكنْ بعدَ أنْ تمكنَ "تيسيليوس" منِ استخدامِ ظاهرةِ الامتزازِ في تحليلِ البروتينات؛ أصبحَ الأمرُ أسهلَ بكثير.

والامتزازُ هوَ ظاهرةٌ سطحيةٌ تلتصقُ فيها الجزيئاتُ بسطحِ مادةٍ صلبةٍ أوْ سائلة. على عكسِ الامتصاص، الذي ينطوي على تغلغلِ الجزيئاتِ في داخلِ المادة، يحدثُ الامتزازُ فقطْ على السطح.

وتتمُّ عمليةُ الامتزازِ بواسطةِ قوىً متعددةٍ بينَ الجزيئات، مثلَ قوى فان دير فال، والتفاعلاتِ الكهروستاتيكية، والرابطِ الهيدروجينيِّ. تجذبُ هذه القوى وتحملُ المادةَ الممتزةَ على سطحِ الممتزات.

منْ خلالِ دراسةِ تفاعُلِها معَ الأسطحِ الصلبةِ أوِ الممتزات؛ تمكنَ "تيسيليوس" منْ تحليلِ بروتيناتِ المصلِ بسهولةٍ وكفاءة.

 وفي عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثلاثينَ؛ نَشرَ "تيسيليوس" نتائجَه الأولى لتطويرِ طريقةٍ تجمعُ ما بينَ الرحَلانِ الكهربائيِّ والامتزازِ، ويُمكنُ استخدامُها للعملِ على تحليلِ بروتيناتِ المصل؛ ومنذُ ذلكَ الحين، قامَ أكثرَ منْ مرةٍ بتحسينِ معداتِه التجريبيةِ وفي النهايةِ رفعَ طريقتَه إلى مستوىً عالٍ منَ الكمال.

وقدْ نجحَ "تيسيليوس" في فصلِ بروتيناتِ هذا المصلِ إلى ثلاثةِ أجزاءٍ متميزة، كلٌّ منها يتكونُ منْ مجموعاتٍ مختلفةٍ قليلًا منَ الجزيئات.

سمحَ ذلكَ الاكتشافُ للعلماءِ فيما بعدُ بإجراءِ توصيفٍ تفصيليٍّ لمكوناتِ البروتينِ الفردية. فمنْ خلالِ فصلِ السيروجلوبولين إلى الأجزاءِ المكوِّنةِ له، أمكنَ للباحثينَ تحديدُ كلِّ بروتينٍ وتحليلُه على حِدَة، واكتسابُ نظرةٍ ثاقبةٍ على خصائصِه الهيكلية، والوظائفِ البيولوجية، والأدوارِ المحتملةِ في عملياتِ المرض. كما تمكنُوا أيضًا منَ التحقيقِ في الوظائفِ والأنشطةِ المحددةِ المرتبطةِ بكلِّ مكونٍ منْ مكوناتِ البروتين. كانَ ذلكَ الأمرُ مفيدًا بشكلٍ خاصٍّ لفهمِ الأدوارِ المتنوعةِ التي تؤديها البروتيناتُ المختلفةُ داخلَ الخليطِ المعقد. إذْ تمكنَ الباحثونَ في وقتٍ لاحقٍ منْ توضيحِ مساهماتِ بروتينِ المصلِ الفرديةِ في عملياتٍ مثلَ الاستجابةِ المناعية، والتخثر، والوظائفِ الفسيولوجيةِ الأخرى.

وُلدَ آرني تيسيليوس في العاشرِ منْ أغسطس عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ واثنينِ في ستوكهولم بالسويد. وهوَ ابنُ "هانز أبراهام جيه" الذي حصلَ على لقبِه منْ جدتِه التي كانَ العديدُ منْ أسلافِها منَ العلماءِ المهتمينَ بالعلوم، وخاصةً في علمِ الأحياء.

في نهايةِ القرنِ السابعَ عشَر، كانَ أعضاءُ هذهِ العائلةِ رجالَ دينٍ متعلمينَ مهتمينَ بالمهماتِ العلميةِ وفي القرنِ الثامنَ عشرَ كانوا أصحابَ مسابكٍ ومزارعين. حصلَ والدُ تيسيليوس، الذي كانَ يعملُ لدى شركةِ تأمينٍ في ستوكهولم، على شهادةٍ جامعيةٍ في الرياضياتِ منْ جامعةِ أوبسالا. أما جدُّه، نيلز أبراهام جوهانسون، وشقيقُ جدِّه أيضًا فقدْ حصلا على درجاتٍ علميةٍ في الرياضياتِ وعلمِ الأحياءِ في أوبسالا على التوالي.

بعدَ الوفاةِ المبكرةِ لوالدِه في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وستة، انتقلتِ السيدةُ "تيسيليوس Arne Tiselius" معَ آرني وشقيقتِه إلى جوتنبرج حيثُ كانَ أجدادُ آرني يعيشونَ وحيثُ كانَ للعائلةِ بعضُ الأصدقاءِ المقربينَ جدًّا الذينَ يمكنُهم منْ نواحٍ مختلفةٍ دعمُ السيدةِ تيسيليوس في موقفِها الصعبِ معَ الطفلين.

ذهبَ آرني إلى مدرسةٍ حيثُ كانَ جدُّه مديرًا. هناكَ، اكتشفَ الدكتور لودفيج جوهانسون، وهوَ مدرسٌ ملهَمٌ جدًّا في الكيمياءِ والبيولوجيا والذي كانَ محاضرًا في علمِ الحيوانِ في أوبسالا قبلَ الذهابِ إلى جوتنبرج، قدرةَ تيسيليوس في الكيمياء.

شجعَ "جوهانسون" "تيسيليوس" على دراسةِ الكيمياءِ في جامعةِ أوبسالا. أكملَ أطروحةَ الدكتوراةِ في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثلاثينَ، بعدَ حصولِه على الدكتوراة، واصلَ تيسيليوس بحثَه في جامعةِ أوبسالا ومعهدِ نوبل الطبي.

خلالَ ثلاثينياتِ القرنِ الماضي، ركزَ "تيسيليوس" أبحاثَه على الرحَلانِ الكهربائيِّ، وصورَ طرقًا وأجهزةً مبتكرةً لإجراءِ التحليلِ الكهربيِّ لبروتيناتِ المصل، والتي قدمتْ رؤىً مهمةً حولَ تكوينِ البروتينات.

ثمَّ جاءَ الاختراقُ الأكثرُ أهميةً في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وسبعةٍ وثلاثينَ عندما قدمَ تقنيةَ الرحَلانِ الكهربيِّ المتحركِ للحدود. تضمنتْ هذهِ الطريقةُ وضعَ عينةٍ منْ بروتيناتِ المصلِ في أنبوبٍ وتعريضَها لمجالٍ كهربائي. في أثناءِ هجرةِ البروتيناتِ عبرَ الأنبوب، شكلتْ نطاقاتٍ أوْ مناطقَ متميزة، مما يسمحُ بفصلِها بناءً على الشحناتِ الكهربائيةِ والأوزانِ الجزيئيةِ المختلفة. صقلَ تيسيليوس هذهِ التقنيةَ على مرِّ السنين، مما جعلَها أكثرَ دقةً وكفاءة.

ومنْ خلالِ دراساتِه الدقيقةِ باستخدامِ الرحَلانِ الكهربائيِّ والامتزاز، توصلَ تيسيليوس إلى اكتشافاتٍ رائدةٍ فيما يتعلقُ بالطبيعةِ المعقدةِ لبروتيناتِ المصل. وحددَ أجزاءَ البروتينِ المختلفةِ في مصلِ الدم، موضحًا خصائصَها الفرديةَ وتكوينَها.

تزوجَ "تيسيليوس " من "استريد فاجرايوس تيسيليوس Astrid Fagraeus Tiselius " وهيَ عالمةُ مناعةٍ سويديةٌ مشهورةٌ معروفةٌ بأبحاثِها حولَ الاستجاباتِ المناعيةِ وتطويرِ الخلايا المنتجةِ للأجسامِ المضادةِ وقدمتْ مساهماتٍ كبيرةً في مجالِ علمِ المناعة، لا سيما في دراسةِ خلايا البلازما؛ ورُزقَ منها بثلاثةِ أبناءٍ همْ "بو تيسيليوس Bo " الذي أصبحَ عالِمًا في الكيمياءِ الفيزيائية؛ و "أولا Ulla " التي عملتْ في مجالِ الطبِّ و"آنا" التي أصبحتْ كوالدتِها عالِمةً في المناعة.

توفيَ "تيسيليوس" في التاسعِ والعشرينَ منْ أكتوبر عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وواحدٍ وسبعينَ في أوبسالا بالسويدِ عنْ عمرٍ ناهزَ تسعةً وستينَ عامًا.

doi:10.1038/nmiddleeast.2024.16