مقالات

جذور الحضارة: اكتشاف ماضي المغرب العربي "النباتي"

نشرت بتاريخ 6 مايو 2024

تُظهر الأسنان والعظام القديمة أن البشر في العصر الحجري كانوا يستهلكون نظامًا غذائيًّا يعتمد على النباتات البرية

محمد منصور

كشفت التحقيقات في موقع تافورالت
بالمغرب عن أدلة دامغة على استهلاك النبات مبكرًا بين الإيبيروموروسيين

كشفت التحقيقات في موقع تافورالت بالمغرب عن أدلة دامغة على استهلاك النبات مبكرًا بين الإيبيروموروسيين


Public Domain Enlarge image

يمثل العصر الحجري الحديث نقطةً محوريةً في تاريخ البشرية، فخلال تلك الفترة انتقل البشر من الصيد وجمع الثمار إلى المجتمعات القائمة على الزراعة.

 

كانت عملية الانتقال بمنزلة اللبنة الأولى لتكوين المجتمعات الحديثة؛ إذ أتاحت الزراعة إنتاج الغذاء بشكل موثوق، وكسرت دائرة الاعتماد على الموارد البرية، وسهلت إنشاء مستوطنات دائمة حيث لم يعد الناس بحاجة إلى اتباع أنماط الهجرة بحثًا عن الطعام، ما أدى ذلك إلى نمو القرى والبلدات، وفي النهاية المدن، مما وضع الأساس للحياة الحضرية.

 

وفي حين أن هذا التحول من تقنيات الجمع والالتقاط والصيد إلى الزراعة موثق توثيقًا جيدًا في مناطق مثل بلاد الشام، فإن ديناميكياته في شمال غرب أفريقيا تظل محاطةً بالغموض.

 

وتُلقي دراسة حديثة نشرتها دورية "نيتشر إيكولوجي آند إيفولوشن" ضوءًا جديدًا على العادات الغذائية للصيادين وجامعي الثمار في عصر ما قبل العصر الحجري الحديث في هذه المنطقة، وخاصةً في الحضارة الأيبيروموروسية.

 

الحضارة الأيبيروموروسية

 

نشأت الحضارة الأيبيروموروسية في شمال أفريقيا خلال العصر البليستوسيني المتأخر، وتمتد تلك الحضارة عبر فترة زمنية تقع ما بين 25 ألف سنة مضت وحتى نهاية العصر الجليدي الأخير، مما يجعلها من أقدم الثقافات التي عرفتها المنطقة.

 

اشتُق الاسم "الأيبيروموروسية" من كلمتي "أيبيريا وموريتانيا"، والأخيرة هي اسم لاتيني لشمال غرب أفريقيا صاغه العلماء لوصف التجمعات من موقع "لا مويلا"، معتقدين أن تلك الحضارة امتدت عبر مضيق جبل طارق إلى شبه الجزيرة الأيبيرية في جنوب أوروبا، وهو الاعتقاد الذي ظهر خطؤه قبل سنوات كثيرة.

 

وتُعرف تلك الحضارة بمقابرها الجماعية الضخمة، التي يُعتقد أنها تشير إلى نمط حياة مستقرة وربما تكون أول مؤشرات الاستقرار في المنطقة، كما كانت قائمةً قبل ظهور الزراعة الحضرية في المنطقة، مما يجعل دراستها مهمةً لفهم التحولات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية التي حدثت في شمال أفريقيا في هذه الحقبة الزمنية المهمة.

 

يُنظر إلى سكان شمال أفريقيا خلال العصر الحجري تقليديًّا على أنهم كانوا يعتمدون فقط على الموارد الحيوانية، إلا أن نتائج تلك الدراسة تتحدى هذه الرواية؛ إذ كشفت التحقيقات في موقع "تافورالت" بالمغرب عن أدلة دامغة على استهلاك النبات مبكرًا بين الإيبيروموروسيين، يشير هذا الاكتشاف -إلى جانب الروابط مع النطوفيين في بلاد الشام- إلى مشهد غذائي أكثر تعقيدًا مما كان يُفترض سابقًا.

 

النظام الغذائي

 

تقول المؤلفة الأولى للدراسة "زينب مبتهج"، طالبة دكتوراة في علم الآثار في معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية في ألمانيا: "إن فحص الموقع أكد أن الصيادين وجامعي الثمار الذين عاشوا في المغرب منذ حوالي 15 ألفًا إلى 13 ألف سنة، استهلكوا كميةً كبيرةً من النباتات البرية كجزء من نظامهم الغذائي".

 

ومن خلال تحليل العظام والأسنان للأفراد المدفونين في مغارة "تافورالت"، وجد الباحثون القليل من الأدلة على استهلاك المأكولات البحرية أو النهرية، ويبدو أن هذه المجموعة البشرية القديمة ربما أدخلت النباتات البرية إلى النظام الغذائي لأطفالها في وقت أبكر مما كان يُعتقد سابقًا.

 

وباستخدام البصمات الكيميائية في عظام وأسنان جُمعت من ذلك الكهف الواقع في شمال شرق المغرب، وجد العلماء دلائل على أن تلك الثقافة كانت تعتمد اعتمادًا كبيرًا على النباتات، فوفقًا لتحليل بصمات العناصر مثل الكربون والنيتروجين والزنك والكبريت والسترونتيوم، تم تحديد نسبة النباتات واللحوم في نظام غذائهم.

 

وتشير هذه التحاليل إلى وجود بقايا نباتية متنوعة -مثل الجوز والصنوبر والفستق والشوفان- في الموقع، بالإضافة إلى استهلاك الأغنام مصدرًا رئيسيًّا للبروتينات، كما تؤكد أيضًا أن سكان ذلك العصر أدخلوا النباتات البرية ضمن النظام الغذائي للرضع في وقت أبكر مما كان يُعتقد سابقًا.

 

المحاصيل البرية

 

على الرغم من أن موقع "تافورالت" لم يكشف عن أي علامة على الزراعة الفعلية، إلا أنه قدم دليلًا على أن الأشخاص الذين يعيشون هناك قاموا بعد ذلك بحصد بعض المحاصيل البرية بشكل انتقائي وقاموا أيضًا بتخزينها، وقد مهدت تلك الممارسات الطريق أمام زراعة المحاصيل، وتتحدى تلك الدراسة الافتراضات السابقة بأن هذه المجموعات تستهلك اللحوم في المقام الأول.

 

تقول "مبتهج" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": لاحظنا بشكل مباشر أهمية النباتات في نظامهم الغذائي، والذي غالبًا ما يتم تجاهله بسبب ندرة بقايا النباتات في السجلات الأثرية.

 

وتتابع: تسهم هذه الدراسة في فهمنا لإستراتيجيات الكفاف البشري من خلال تسليط الضوء على الدور المهم للنباتات باعتبارها عنصرًا غذائيًّا أساسيًّا للسكان القدماء، كما تؤكد أهمية مراعاة العوامل البيئية وتوافر الموارد الغذائية في تشكيل الأنماط الغذائية البشرية وأنماط الاستيطان.

 

علاوةً على ذلك، فإن وجود مقابر كبيرة يُعاد استخدامها على نحوٍ متكرر في "تافورالت" يشير إلى نمط حياة مستقر، وهي السمة المميزة للمجتمعات الزراعية، وهذا يتحدى المفاهيم السابقة للتنقل الأيبيروموروسي، ويؤكد مدى تعقيد مجتمعات ما قبل العصر الحجري الحديث في شمال أفريقيا.

 

ديناميكيات اجتماعية واقتصادية

 

تمتد الآثار المترتبة على هذه النتائج إلى ما هو أبعد من عمليات إعادة البناء الغذائية؛ إذ توفر رؤى قيمة حول الديناميكيات الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات القديمة، وتكيُّفها مع البيئات المتغيرة، والمسارات نحو الابتكار الزراعي، علاوةً على ذلك، فإنها تؤكد الحاجة إلى مناهج متعددة التخصصات في البحوث الأثرية، وسد الفجوة بين علم آثار الحيوان التقليدي وتحليل النظائر.

 

عالِم آثار النبات دوريان فولر
عالِم آثار النبات دوريان فولر
Enlarge image

ويرى عالِم آثار النبات "دوريان فولر"، الذي يعمل منذ أكثر من ربع قرن في مجال الزراعة القديمة، أن دراسة العادات الغذائية للسكان القدماء أمر بالغ الأهمية لفهم التطور البشري، والممارسات الثقافية، والتكيف البيئي، والصحة والتغذية، والآثار المترتبة على النظام الغذائي الحديث والصحة، علاوةً على التفسير الأثري.

 

فمن خلال تحليل الأنظمة الغذائية القديمة، يكتسب الباحثون نظرةً ثاقبةً حول كيفية تكيُّف أسلافنا مع بيئات مختلفة، وتطوير إستراتيجيات شراء الغذاء، والتطور البيولوجي، ما يوفر معلومات قيمة حول الممارسات الثقافية، وتقاليد الطهي، والطقوس المتعلقة بالغذاء في المجتمعات السابقة، ويسلط الضوء على العلاقة بين النظام الغذائي والصحة والمرض في سياقات تاريخية مختلفة.

 

يقول "فولر" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": تطرح نتائج الدراسة الجديدة تساؤلات حول عوامل نقص التنمية الزراعية في بداية عصر الهولوسين، مثل تحولات المناخ والتغيرات البيئية والعوامل الثقافية.

 

إستراتيجيات العيش البشري

 

بعيدًا عن آثارها في فهم العادات الغذائية القديمة، فإن لهذه الدراسة أهميةً أوسع لفهمنا لإستراتيجيات العيش البشري والانتقال من الصيد وجمع الثمار إلى الزراعة، ففي حين أن الأدلة الزراعية في المغرب لم تظهر إلا قبل حوالي 7600 سنة مضت خلال العصر الحجري الحديث، تشير الدراسة إلى أن النباتات البرية أدت دورًا حاسمًا في كلٍّ من المجموعات البشرية ما قبل الزراعة والعصر الحجري الحديث، وهذا يتحدى السرد التطوري الخطي الذي لوحظ في مناطق أخرى، ويؤكد مدى تعقيد التكيفات الغذائية البشرية في بيئات مختلفة.

 

وتقول "مبتهج": تؤكد الدراسة المرونة التي تمتع بها السكان القدامى وقدرتهم على التكيف في مواجهة التحديات البيئية، فمن خلال فهم كيفية حصول المجتمعات السابقة على الغذاء من بيئاتها، نكتسب تقديرًا أعمق لتعقيدات التطور البشري وأهمية مراعاة العوامل البيئية في تشكيل التكيفات الغذائية.

 

وتضيف: بينما نواصل كشف أسرار ماضينا، فإن مثل هذه الدراسات تذكرنا بالنسيج الغني للتاريخ البشري ورحلة التكيف والبقاء الرائعة التي قام بها أسلافنا.

doi:10.1038/nmiddleeast.2024.141