عاصفة من الجدل أشعلها حصول الذكاء الاصطناعي على اثنتين من جوائز نوبل
14 October 2024
نشرت بتاريخ 8 أكتوبر 2023
قد تساعد قائمة معايير خلصت إليها ست نظريات عن الوعي في علم الأعصاب في تقييم ما إذا كان الذكاء الاصطناعي قد طوَّر وعيًا ذاتيًا.
لطالما راودت فكرة اكتساب الذكاء الاصطناعي لوعي ذاتي أذهان مبدعي أعمال الخيال العلمي. خذ مثالًا على ذلك الحاسوب الخارق «هال 9000» الذي يتحول إلى عبقري شرير في فيلم عام 1968 «2001: ملحمة الفضاء» 2001: A Space Odessy. وقد بدأت هذه الفكرة التي عُدت فيما مضى ضربًا من الخيال، تغدو شيئًا فشيئًا أقرب إلى واقع محتمل مع تطور الذكاء الاصطناعي بخطى سريعة، حتى إن بعض العلماء البارزين في مجال الذكاء الاصطناعي أقروا بواقعيتها. بل إن إليا سوتسكيفر، كبير علماء شركة «أوبن إيه آي» Open AI للذكاء الاصطناعي التي يُنسب إليها ابتكار روبوت الدردشة «تشات جي بي تي» ChatGPT، بعث بتغريدة على موقع «تويتر» مفادها أن بعضًا من أكثر شبكات الذكاء الاصطناعي تطورًا قد تكون "واعية بدرجة طفيفة".
ويذهب كثير من الباحثين إلى أن أنظمة الذكاء الاصطناعي لم تصل بعد إلى تطوير وعي ذاتي، وإن كانت الوتيرة التي تمضي بها عجلة تطور الذكاء الاصطناعي قد دفعتهم إلى التفكُر في الآلية التي قد يمكن أن نجزم بها بأن هذه الأنظمة قد غدت واعية.
للإجابة عن هذا السؤال، وضع فريق بحثي من 19 من علماء الأعصاب والفلاسفة وعلماء الحاسوب قائمة معايير إرشادية ترجِّح اكتساب نظام الذكاء الاصطناعي للوعي حال استيفائه لبنودها. ونشر الفريق البحثي قائمته هذه في بداية الأسبوع الثاني من سبتمبر، في مسودة بحثية على مستودع المسودات البحثية المعروف باسم «آركايف»، قبل خضوعها لمراجعة الأقران. وكان ما دفع واضعو الدراسة إلى النهوض بهذه المهمة، على حد تعبير روبرت لونج، المؤلف المشارك في الدراسة، والفيلسوف بـمؤسسة «مركز أمان الذكاء الاصطناعي» Center for AI safety غير الربحية في مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا الأمريكية، هو أنه "بدا أن ثمة شحًا في النقاشات المدروسة التفصيلية القائمة على أسس تجريبية عملية فيما يخص وعي الذكاء الاصطناعي".
ويرى الفريق أن الإخفاق في البت فيما إذا كان نظامٌ للذكاء الاصطناعي يتمتع بوعي أم لا، له تداعيات أخلاقية مهمة. وهو ما تعلل له وتوضحه ميجان بيترز، اختصاصية علم الأعصاب من جامعة كاليفورنيا في مدينة إرفاين الأمريكية قائلة: "عندما نسم شيئًا ما بأنه واع فهذا يغير كثيرًا منظورنا للكيفية التي ينبغي لنا بها معاملته".
ويقول لونج إنه على حد علمه لم تبذل الشركات المصممة لأنظمة الذكاء الاصطناعي جهودًا كافية في تقييم احتمالية تمتع هذه الأنظمة بوعي، أو ما يكفي من المساعي لوضع خطط لمواجهة هذه الاحتمالية. ويضيف: "هذا رغم أنك إن استمعت لآراء مديري مختبرات الذكاء الاصطناعي البارزة، لوجدتهم بالفعل يقرون بأن اكتساب أنظمة الذكاء الاصطناعي للوعي هو قضية تثير تساؤلاتهم".
من هنا، تواصلت دورية Nature، مع اثنين من كبريات شركات التقنيات التي تعنى بتطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي، وهما شركتي «مايكروسوفت» و«جوجل». ومن جانب، أفاد متحدث باسم شركة «مايكروسوفت» بأن تطوير الشركة لأنظمة الذكاء الاصطناعي ينصب على دعم إنتاجية الأفراد على نحو مسؤول، وليس على محاكاة الذكاء البشري. بيد أنه أضاف أن ما يتضح جليًا منذ إعلان طرح نظام «جي بي تي-4»GPT-4 ، النسخة الأحدث من نظام «تشات جي بي تي» "أنه ثمة حاجة إلى طرق جديدة لتقييم إمكانات نماذج الذكاء الاصطناعي في إطار سعينا للتوصل إلى الكيفية التي يمكننا بها توظيف أقصى طاقات هذه النماذج لمنفعة المجتمع بأسره". أما شركة «جوجل»، فلم ترد على طلب دورية Nature بإبداء الرأي في تلك المسألة.
ماهية الوعي
أحد التحديات التي تعترض دراسة الوعي في حقل أنظمة الذكاء الاصطناعي يتمثل في الوقوف على ماهية الوعي. في هذا السياق، يفيد بيتر بأنه لأغراض الورقة البحثية سالفة الذكر، ركز الباحثون على "الوعي المُدرك بالحواس"، أو ما يعرف بالتجربة الذاتية، بعبارة أخرى، على تجربة الكينونة ككائن حي، أو تجربة الإنسان أو الحيوان أو نظام الذكاء الاصطناعي (عندما يتبين أن لدى أي منهم وعيًا).
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الكثير من النظريات القائمة على علم الأعصاب تقدم توصيفًا للأساس البيولوجي للوعي. بيد أنه لا يوجد إجماع على أن أي منها هي "الصائبة". ولوضع إطار العمل الذي ينطلق الباحثون منه، استعانوا بطيف متنوع من هذه النظريات. والفكرة التي تقوم عليها الدراسة هي أن أي نظام ذكاء اصطناعي تستوفي آلياته الوظيفية جوانب من هذه النظريات، ترجح بدرجة أكبر احتمالية تمتعه بوعي.
ويحاجج الفريق واضع الدراسة بأن هذا المنحى أفضل لتقييم الوعي من الاكتفاء بإخضاع نظام الذكاء الاصطناعي لاختبار سلوكي، كسؤال «تشات جي بي تي»، مثلًا، عما إذا كان يتمتع بوعي أو استفزازه في تحد لتأمل كيفية استجابته. وهذا لأن أنظمة الذكاء الاصطناعي أصبحت شديدة البراعة في محاكاة البشر.
ويصف الفريق واضع الدراسة المنحى الذي يسلكه في هذا الصدد بأنه كثيف الاعتماد على النظريات. وهو يشكل بذلك مقاربة جيدة في رأي أنيل سيث اختصاصي علم الأعصاب، ومدير مركز أبحاث الوعي في جامعة ساسِكس القريبة من مدينة برايتون بالمملكة المتحدة، إلا أن سيث يستدرك مضيفًا أن ما يلفت إليه هذا المنحى بالدرجة الأولى هو: "أننا بحاجة لنظريات مجربة جيدًا وأكثر دقة عن الوعي".
ركيزة نظرية قوية
لوضع المعايير التي تشكِّل سمة الوعي، افترض واضعو الدراسة أن الوعي يرتبط بطريقة معالجة المعلومات، بغض النظر عن العناصر التي تضطلع بهذه المعالجة، سواءً أكانت خلايا عصبية أو رقاقات حاسوبية أو ما شابه، وهي مقاربة دراسية يُشار إليها باسم "النزعة الوظيفية في الحوسبة". كذلك افترض الفريق البحثي أن بعض النظريات التي تستمد أساسها من علم الأعصاب عن الوعي، والتي تدرسها فحوص المسح الدماغي وغيرها من التقنيات المستعملة مع البشر والحيوانات، قد تنطبق صحتها على أنظمة الذكاء الاصطناعي.
وبناءً على هذه الافتراضات، خرج الفريق بقائمة من مؤشرات الوعي تستند إلى ست نظريات، إحداها تُعرف باسم «فضاء العمل الشامل». وهي تدفع بأن البشر وغيرهم من الحيوانات يستخدمون العديد من المنظومات المتخصصة في أداء المهام الإدراكية مثل الرؤية والسمع، وهي منظومات تُعرف باسم الوحدات. وكل منها تعمل على حدة لكن بالتوازي مع إحداها الأخرى، وتتبادل المعلومات فيما بينها بالتكامل تحت نظام واحد. ويمكن لنا تقييم ما إذا كان نظام ذكاء اصطناعي قد بدأ يُظهر أحد مؤشرات الوعي التي تشير إليها هذه النظرية من خلال: "تأمل نسق تصميم النظام وآلية تدفق المعلومات خلاله"، بحسب ما يفيد لونج.
ويجد سيث شفافية المعايير التي يطرحها الفريق مثيرة للإعجاب، وهو ما أعرب عنه قائلًا: "إنه نهج مدروس للغاية، تخلو لغته من التعقيد والعبارات المتحذلقة الفضفاضة، وينبني على فرضيات ناصعة الوضوح. أختلف مع بعض ما يطرحه، لكن لا بأس تمامًا بهذا، إذ يُحتمل بدرجة كبيرة أن أكون قد جانبت الصواب".
ويلفت الفريق البحثي إلى أن ورقته البحثية لا تطرح منهجية قاطعة لتقييم أنظمة الذكاء الاصطناعي لرصد اكتسابها للوعي، ويناشد الفرق البحثية الأخرى بأن تسهم في تنقيح منهجيته تلك. غير أنه قد بات ممكنًا بالفعل أن نستخدم بعض معايير الدراسة في تقييم أنظمة الذكاء الاصطناعي القائمة. على سبيل المثال، تقيم الورقة البحثية نظم قوالب لغوية كبيرة مثل نظام «تشات جي بي تي»، وتجد أن هذا النوع من النظم، يمكن القول بأنه يظهر بعض مؤشرات الوعي المرتبطة بنظرية فضاء العمل الشامل، لكن في الختام، لا يوعز العمل البحثي بأن أية أنظمة ذكاء اصطناعي قائمة يُحتمل بدرجة كبيرة أن تكون واعية، أقله ليس حتى وقتنا الحالي.
doi:10.1038/nmiddleeast.2023.187
تواصل معنا: