مقالات

Read this in English

العودة الهادئة للعاثيات

نشرت بتاريخ 3 سبتمبر 2015

يتحول الباحثون في المنطقة العربية نحو عدوّ قديم للبكتيريا أملاً في العثور على بديل للمضادات الحيوية.

نادية العوضي

ترغب مدينة زويل في تطوير أداة تعتمد على العاثيات يمكنها تحرّي البكتيريا الممرضة 
ترغب مدينة زويل في تطوير أداة تعتمد على العاثيات يمكنها تحرّي البكتيريا الممرضة 
© Zewail City of Science and Technology  Enlarge image

في نهاية القرن التاسع عشر، ذكر اختصاصي البكتيريا البريطاني إرنست هانكين1 أن مياه نهري الغانج والجومنا في الهند أبدت خصائص مضادة للجراثيم أجهضت انتشار الكوليرا. لكن وصف الفيروسات القادرة على إصابة البكتيريا لأول مرة لم يحدث قبل عام 1917، حينما صاغ فيليكس ديريل -عالم الأحياء الدقيقة من معهد باستور في باريس- مصطلح العاثيات (الفيروسات الحالّة للبكتيريا). العاثيات هي فيروسات تربط نفسها بمستقبِلات معينة على سطح البكتيريا، سامحة لهم بالدخول إلى مضيفها، والتكاثر داخله، وكثيرًا ما تقتله. يمكن لكل نوع من أنواع العاثيات أن يصيب فقط البكتيريا التي لديها مستقبِلات يمكنها الارتباط بها، مما يجعلها نوعية جدًّا لأنواع محددة.

ظلت العاثيات مدة قصيرة تبدو واعدة بوصفها علاجًا مضادًّا للجراثيم. ولكن مع ظهور المضادات الحيوية بعد نحو 15 عامًا من اكتشاف ديريل، حوّل معظم العالم الغربي تركيزه نحو المضادات الحيوية، مستبعدًا بحوث العاثيات إلى حد كبير.

ولكن في أبريل، قرعت منظمة الصحة العالمية (WHO) ناقوس الخطر، محذرة من أن الإفراط في استعمالها يقود إلى مستقبل من مقاومة المضادات الحيوية.

من بين الدول العربية التي كان لديها بيانات لتقدمها، لم تُشِر أي منها إلى خطة عمل وطنية تتعلق بمقاومة مضادات الميكروبات، في حين ذُكرت إتاحة المضادات الحيوية دون وصفة طبية في تسعة من أصل واحد وعشرين بلدًا ينتمي إلى إقليم شرق المتوسط ​​لمنظمة الصحة العالمية.

بديل للمضادات الحيوية

من بين تلك البلدان مصر، حيث يسبب سوء استخدام المضادات الحيوية قلقًا لدى عدد قليل من الباحثين المصريين الذين كانوا يتطلعون إلى العاثيات بوصفها بديلاً للمضادات الحيوية.

يقول طارق العربي -عالم الفيروسات الزراعية في جامعة عين شمس-: "تحدثت مرارًا إلى صندوق العلوم والتنمية التكنولوجية (STDF) و[أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا] عن الحاجة إلى منح أبحاث العاثيات في مصر كثيرًا من التمويل"، معللاً: "لأن الاستخدام المفرط للمضادات الحيوية للسيطرة على الأمراض البكتيرية لدى الحيوانات قد أصبح خارج نطاق السيطرة الآن".

منح صندوق العلوم والتنمية التكنولوجية 1,5 مليون جنيه مصري (200,000 دولار أمريكي) مشروعًا في مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا، يقع خارج القاهرة؛ لتطوير أداة تعتمد على العاثيات يمكنها كشف وتحديد البكتيريا الممرضة في عينات من السلاسل الغذائية والمستشفيات.

"لقد أصبح الاستخدام المفرط للمضادات الحيوية للسيطرة على الأمراض البكتيرية في الحيوانات خارجًا عن السيطرة الآن".

كما منحت الأكاديمية المصرية للبحث العلمي والتكنولوجيا، عن طريق ’برنامج البحوث والتنمية والابتكار‘ الممول من الاتحاد الأوروبي، مختبر طارق العربي مبلغ 444,000€ لإيجاد مضادّات طبيعية لمجموعة كبيرة ومتنوعة من العوامل الممرضة التي تصيب نباتات الطماطم والبطاطس في مصر. وكجزء من هذا المشروع، عمد العربي وفريقه، بالتعاون مع مؤسسات ألمانية ونمساوية، إلى عزل العاثيات واختبارها ضد البكتيريا Ralstonia solanacearum والسالمونيلا (Salmonella).

ويشرف العربي أيضًا على عدة مشروعات أخرى لأبحاث الدراسات العليا ذات الصلة بالعاثيات. أحد طلاب الماجستير يستخدم غلاف العاثية لحماية البكتيريا المتجذّرة (Rhizobium) -المفيدة للبقوليات كالفول والعدس- من هجوم العاثيات. فهي تحصر المستقبلات التي ترتبط بها العاثيات عادة، بحيث "عندما تصادف العاثيات البرية البكتيريا في الأوساط البيئية فلن تتمكن من الارتباط بالمضيف"، وفق تفسير العربي.

ثمة طالب آخر يتعاون مع زميل في جامعة جويلف في كندا لعزل العاثيات التي يأملون أن تتمكن من السيطرة على المطثية العسيرة (Clostridium difficile)، وهي بكتيريا شديدة المقاومة تصيب الجهاز الهضمي.

كما يتعاون العربي أيضًا مع أيمن شبيني، خبير الميكروبيولوجي في جامعة مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا. وقد كرّس مختبر الشبيني جهوده البحثية لدراسة العاثيات بشكل خاصّ.

"لدينا مشكلة خطيرة جدًّا في مصر مع البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية"، وفقًا لقول الشربيني؛ إذ يؤكد: "يجب علينا تطبيق اللوائح بحظر بيع المضادات الحيوية دون وصفات طبية، وتشكيل شبكة لربط كافة المستشفيات في مصر لتحديد أي جائحة وأي بكتيريا ممرضة". 

يعمل الشربيني على عزل العاثيات من البيئة المصرية المحيطة، أملاً في العثور على عاثيات نوعية للبكتيريا الموجودة في البلاد. وهو يهدف الى تأسيس بنك للعاثيات في مدينة زويل لإنشاء أول مركز أبحاث متخصص في مصر والمنطقة العربية لتطبيق العلاج بالعاثيات، وفق قوله.

بالإضافة إلى مشروعه الممول من قبل صندوق العلوم والتنمية التكنولوجية لاستخدام العاثيات باعتبارها أداة للكشف السريع عن العوامل الممرضة في السلاسل الغذائية والمستشفيات، يعمل الشربيني أيضًا على ابتكار مزيج من العاثيات التي يمكن تطبيقها على المرضى الذين يعانون حالات عدوى الجروح والقدم السكرية، وهي عدوى خطيرة تصيب مرضى السكري، وقد تؤدي إلى الغرغرينا فتُلزم بالبتر. 

وإلى الشمال في منطقة الدلتا الخصبة في مصر، دأب أحمد عسكورة -خبير علم الأحياء الدقيقة في جامعة الزقازيق- على عزل العاثيات من مياه الصرف الصحي للمستشفيات لاستهداف الزائفة الزنجارية Pseudomonas aeruginosa، البكتيريا التي يمكنها إحداث حالات العدوى المهددة للحياة لدى البشر.

اختبر عسكورة بنجاح عاثياته على الفئران المصابة بالعدوى البكتيرية، وهو الآن في المراحل النهائية من وضع التسلسل الجينومي للعاثيات في جامعة جنوب باريس في فرنسا لتحديد الجينات المعينة المسؤولة عن قتل البكتيريا؛ فكما يوضح: "يتطلب وضع تسلسل الجينوم الكامل معدات خاصة جدًّا غير متوفرة في مصر".

عن طريق تحديد الجين المسؤول عن تحلل البكتيريا، يأمل عسكورة باستخدامه لتطوير منتج علاجي للاستعمال التجاري، وهو الهدف الذي لا يزال أمام تحقيقه عدة سنوات.

تأسيس قاعدة بيانات

"يتطلب وضع تسلسل الجينوم الكامل معدات خاصة جدًّا غير متوفرة في مصر".

يبدي عالم الأحياء الدقيقة رامي عزيز -عضو هيئة التدريس في كلية الصيدلة بجامعة القاهرة- اهتمامًا خاصًّا بالمرحلة البحثية التي ستلي وضع التسلسل الجينومي للعاثيات. وكان قد شارك في تطوير PhAnToMe (أدوات وطرق شرح العاثيات)، وهي قاعدة بيانات خاصة بالعاثيات أنشئت في الولايات المتحدة بين عامي 2009 و2012.

لقد انتهى تمويل قاعدة البيانات، لكن تحديثها مستمر، وهي تضمّ الآن التسلسل الجينومي لأكثر من ألفي عاثية (2000)، مما يجعلها واحدة من أكثر قواعد بيانات العاثيات المتوفرة شمولاً، وفقًا لقول عزيز.

يشمل PhAnToMe أداة تساعد على تحديد المواد الجينومية للعاثية التي تم حقنها داخل جينوم بكتيري. وكان دور عزيز في تطوير هذه الأداة هو مساعدة مطوري البرامج على "تعليم" البرنامج كيفية تمييز المواد الجينومية للعاثية بدرجة معقولة من الدقة.

يدرّب عزيز العلماء في جميع أنحاء العالم على تحليل جينوم العاثيات باعتباره واحدًا من الخبراء القليلين في هذا المجال. كما أنه متحمس لتدريب طلابه في جامعة القاهرة على استخدام برامج الكمبيوتر لتحديد التسلسلات الجينومية للعاثيات. 

يتطلب تحليل الجينوم الكثير من المعرفة والعديد من الموارد البشرية، وهو الأمر الذي يمكن للعدد الكبير من الطلاب في جامعة القاهرة أن يوفره بأريحية، كما يقول. وفي الآونة الأخيرة كان عزيز أحد أعضاء فريق دولي كبير اكتشف الفيروس الأكثر وفرة في أمعاء الإنسان، crAssphage، والذي يعتقدون أنه يستخدم البكتيريا العصوانية Bacteroides مضيفًا له.

جهود مبعثرة

يبدو أن مصر تشكل مركزًا متعاظمًا لبحوث العاثيات، ولكن ثمة علماء في أجزاء أخرى من العالم العربي يظهرون اهتمامًا بهذا المجال، على الرغم من ضحالة الاتصالات فيما بينهم.

في جامعة كارنيجي ميلون في قطر، فوجئت أنيت فنسنت -المختصة بالكيمياء الحيوية- وطالبتها الجامعية أم كلثوم أملاي عندما تمكنتا من النجاح في عزل العاثيات التي تستهدف Athrobacter woluwensis من الرمال الجافة القاحلة المحيطة بالجامعة. تُستخدم هذه البكتيريا لنزع النيتروجين ونزع الفوسفات في معالجة مياه الصرف الصحي، قبل أن تُقتل عادة بكميات كبيرة من الكلور. تأمل فنسنت أن تتمكن العاثية التي عزلتاها من توفير بديل آمن للكلور في معالجة مياه الصرف الصحي في قطر.

تستمر أبحاث العاثيات بالازدهار في المنطقة 
تستمر أبحاث العاثيات بالازدهار في المنطقة 
© Ayman El-Shibiny 
في الجامعة الأميركية في بيروت، يعكف كولن سميث -عالم الكيمياء الحيوية وأستاذ البيولوجيا المشارك- على دراسة تفاعلات RNA والبروتينات، وكيف يمكن لتفاعلات هذه الجزيئات الكبيرة أن تحدث. تقوم بعض العاثيات بتنظيم تعبيرها الجيني عن طريق ربط الـRNA بالبروتين، وتوفّر العاثيات كلا المثلين من تفاعلات RNA والبروتينات المثيرة للاهتمام والنظم التي يمكن بواسطتها إظهار كيف يمكن للانحراف الجيني أن يؤدي إلى طرق جديدة للتعرّف. تحدث التفاعلات النوعية الصغيرة بين الـRNA والبروتينات في فيروسات أخرى، ومن ضمنها فيروس نقص المناعة البشرية، وقد يؤمّن فهم كيفية حدوث التعرّف رؤية مساعدة لفهم كيف تتأقلم الفيروسات مع مضيفيها الجدد.

يستمر هذا المجال من البحوث بالنمو في المنطقة، مع إجراء بلدان أخرى -مثل تونس والمملكة العربية السعودية- برامجَ البحوث على العاثيات.

يقول العربي: إن الجمعية المصرية لعلم الفيروسات تأمل تنظيم دورة عن بحوث العاثيات في المؤتمر الإقليمي العربي الذي يُعقد مرة كل سنتين، والذي سيحلّ موعده في نهاية عام 2016. وهو يأمل أن يفتح هذا الباب نحو تحسين التواصل بين العلماء العرب الذين يجرون أبحاثًا في هذا المجال. "ليس لدينا فكرة عمن يفعل ماذا"، كما يقول. ويشرح قائلاً: إن العديد من الباحثين في المنطقة العربية ينشرون أعمالهم في دوريات محلية غير متاحة لزملائهم الآخرين في المنطقة. وعادة ما يطّلع العلماء على أعمال زملائهم عندما تصل البحوث إلى الدوريات الأكثر تأثيرًا فقط. وفي حالة بحوث العاثيات في المنطقة، لا يزال النشر عند هذا المستوى محدودًا.

ويعتقد العربي أن مصر تستطيع أن تكون "نواة لبحوث العاثيات"؛ نظرًا لأن القوانين والأنظمة فيها تسمح بإجراء التجارب على الحيوانات وزراعة الأنسجة، وهو الأمر الذي يصعب تنفيذه وفق الأنظمة والقوانين المتبعة في الدول الأوروبية. "فمثلاً، ليس لدينا حدّ معيّن لعدد التجارب أو عدد الحيوانات المستخدمة في كل تجربة طالما التزمنا بالنقاط الأخلاقية الأخرى الخاصة بالرفق بالحيوان"، وفق توضيحه. "ثانيًا، بالنسبة للتطبيقات الميدانية، هناك العديد من المزارعين المستعدين عادة للسماح لنا بتجربة طرق جديدة لمكافحة للسيطرة على العوامل البكتيرية الممرضة للنباتات". وهذا ما يسمح، كما يفسر، بدراسة سمية العاثيات وتأثيرها على المرض.

ويعتقد العربي أنه سيكون من المفيد للباحثين المصريين المهتمين ببحوث العاثيات أن يتعاونوا في دراسة واحدة كبيرة، والتي يمكن في النهاية تقديم نتائجها إلى المسؤولين الحكوميين لإقناعهم بأهمية هذا المجال من البحث.

ويقول: إن غياب آلية تنظيمية للموافقة على ترخيص منتجات العاثيات سوف يحتاج أيضًا إلى معالجته في الوقت المناسب.

doi:10.1038/nmiddleeast.2015.158


  1. Wittebole, X. et al A historical overview of bacteriophage therapy as an alternative to antibiotics for the treatment of bacterial pathogens. Virulence http://dx.doi.org/10.4161/viru.25991 (2014)
  2. Dutilh, B.E., et al. A highly abundant bacteriophage discovered in the unknown sequences of human faecal metagenomes. Nat. Commhttp://dx.doi.org/10.1038/ncomms5498 (2014)