مقالات

الانتقـــــــال: وعدٌ من الشرق الأوسط

نشرت بتاريخ 2 سبتمبر 2013

تتنافس بلدان شبه الجزيرة العربية في اجتذاب العلماء الشباب إلى جامعاتها.

كيورين شيرماي

عندما أبلغ دييجو كوادروس زملاءه العلماء بأنه بصدد الانتقال إلى قطر، نظروا إليه غير مصدقين. وتساءلوا: ما الذي يأمل أن يكسبه من إجراء بحث في إمارة عربية صغيرة، خرافية الثراء بالنفط والغاز، ولكنها دون تاريخ علمي يُذكر؟ وماذا لو انفصل تماما عن سبل التعاون وشبكات الزملاء والخبرات العلمية التي قد تيسر نجاح مسيرته المهنية؟

لكن كوادروس -عالم الأوبئة، كولومبي المولد، الذي كان على وشك الانتهاء من إعداد رسالة الدكتوراه في جامعة كنتاكي في ليكسينغتون- كان يعرف ما الذي كان مقدما عليه. فقد عثر على بحث قدّمه ليث أبو ردّاد، وهو باحث في مجال الصحة العامة في كلية طب وايل كورنيل في قطر (WCMC-Q) -فرع الدوحة من كلية طب وايل كورنيل في نيويورك– ووجد نفسه مهتما بالبحث الذي أجراه أبو ردّاد عن مرض السكري وسواه من الأمراض. وكان يعلم أيضا أن فرصته في الحصول على تمويل في الولايات المتحدة بعد حصوله على الدكتوراه كانت ضئيلة. في عام 2010، سأل عن فرص ما بعد الدكتوراه في WCMC-Q، فدعاه أبو ردّاد لتدريب صيفيّ لمدة شهرين. أُعجب كوادروس بما شاهده خلال زيارته القصيرة لقطر، وعندما عرض عليه أبو ردّاد فيما بعد وظيفة لما بعد الدكتوراه، حزم حقائبه وعاد إلى الشرق الأوسط.

تسعة عشر شهرا مرّت، وكوادروس سعيد لأنه اتخذ هذه الخطوة. "إنني أحصل على كل الدعم الذي كنت أتمناه، وأستطيع التركيز بنسبة 100٪ على مشروع الملاريا الخاص بي"، كما يقول، مشيرا إلى أن الإمارة توفّر موارد وافرة للبحوث، والسفر، وشراء المعدّات، والإسكان. للمرة الأولى في مسيرته المهنية، يدير بنفسه الشؤون المالية المخصصة لبحثه، منحة قدرها 100,000 دولار أمريكي على مدة ثلاث سنوات، في إطار برنامج خبرة الأبحاث للطلبة الجامعيين من الصندوق القطري لرعاية البحث العلمي. وبفضل الدعم السخي للسفر، المقدّم من قبل أبو ردّاد والجامعة، يمكنه حضور المؤتمرات بانتظام في آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية. وهو لا يشعر بالعزلة في الدوحة. فالمدينة التعليمية في العاصمة، وهي مجمع علمي وتقني كبير افتتح في عام 1998 بدعم من الحكومة، يستضيف فروعا للعديد من الجامعات الأمريكية والبريطانية، بما في ذلك جامعة تكساس A&M، وجامعة كارنيجي ميلون، وكلية لندن الجامعية. "هنا أشعر بأنني على تواصل أفضل مما كنت عليه في الولايات المتحدة"، استنادا إلى كوادروس.

قوة المعرفة

ليست قطر المركز العلمي الوحيد للطموحين في شبه الجزيرة العربية. فالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تدركان أن آبار النفط سوف تنضب عاجلا أم آجلا، وأن اقتصاد المعرفة قد يكون المفتاح لتحقيق الازدهار في المستقبل، لذا أطلقتا جهودهما الطموحة لتصلا إلى مصاف الدول المتميزة دوليا في مجال العلوم والتعليم العالي . تفخر جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا (KAUST) في ثول -التي تعتمد اللغة الإنجليزية، والتي خرّجت أول دفعة من طلاب الدكتوراه في ديسمبر الماضي- بأن هيئتها التدريسية تضّم العشرات من كبار الباحثين الغربيين. وتجتذب جامعة نيويورك أبو ظبي في الإمارات العربية المتحدة (NYUAD) طلاب العلم من مختلف أنحاء العالم إلى مرحلتها الجامعية (ليس لديها أي برنامج رسمي للدكتوراه حتى الآن)، كما تقدّم جامعة سوربون باريس في أبو ظبي برامج في العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية.


دييجو كوادروس:
دييجو كوادروس: "هنا أشعر بأنني على تواصل أفضل مما كنت عليه في الولايات المتحدة."

وقد شهد العقد الماضي أيضا نشوء العديد من الجامعات التي تعنى بالعلوم المستقبلية بين الكثبان الرملية، والتي اسْتُكملت بمختبرات حديثة، وفرص تمويل مربحة (تنفق قطر نحو 2.8٪ من الناتج المحلي الإجمالي، أو 1 مليار دولار، على البحوث والتعليم العالي كل عام، وتخصص جامعة الملك عبد الله 10 مليارات دولار)، ورواتب سخية تعادل بشكل عام مثيلاتها في الولايات المتحدة. وغالبا ما يأتي المال مباشرة من المؤسسات، مما يعني أن الباحثين يبذلون القليل من الجهد في استجلاب المنح الخارجية.

تمتلئ المنطقة بشراكات تهدف إلى جذب الخبرات والبنى التحتية من البلدان الأخرى. فمعهد مَصْدَر للعلوم والتكنولوجيا في أبو ظبي يتعاون مع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في كامبريدج؛ لإجراء بحوث في مجال الطاقة والاستدامة، والبحث عن وقود حيوي للطيران. وقد بدأ كوروش صالحي أشتياني -عالم النظم البيولوجية، الذي كان يعمل سابقا في كلية الطب بجامعة هارفارد في بوسطن، ماساتشوستس- بإجراء أبحاثه هناك على عملية التمثيل الغذائي للطحالب بمنحة من وزارة الطاقة في الولايات المتحدة. وهو يعمل الآن في جامعة نيويورك أبو ظبي، ويتعاون مع أفراد في جامعة فرجينيا في شارلوتسفيل.

ومع ذلك، تتحمل المؤسسات عبئا كبيرا في مجال التوظيف وحشد الخبرات لتلحق بالركب. فجامعة نيويورك أبو ظبي تخطّط لتوسيع برامجها في العلوم والرياضيات بشكل كبير، وتسعى إلى توظيف أعضاء هيئة التدريس في العام المقبل، بعد انتقالها إلى الحرم الجامعي الجديد الرحب في جزيرة السعديات. ومنذ يناير، بدأت جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا بتوظيف هيئة التدريس في العلوم البيولوجية وعلوم المواد.

قد يُشكّل قضاء وقت في مختبر في الخليج إضافة قيّمة إلى السيرة الذاتية لأيّ عالم غربي، فهذا الأمر يشير إلى المرونة الشخصية والانفتاح والاستعداد لتحمل مستوى معين من المخاطر. ولكن أي شخص يفكر في اتخاذ هذه الخطوة يجب أن يتذكر أن البيئة العلمية هناك لا تزال فتيّة، حسب قول خالد مشاقة -العميد المشارك للأبحاث في WCMC-Q- على الرغم من وفرة فرص التمويل والترحيب بالمواهب الجديدة، سيحتاج الباحثون الأجانب إلى التحلّي بالصبر بسبب البنية التحتية الأقل تطورا. عندما وصل صالحي أشتياني إلى جامعة نيويورك أبو ظبي في شهر فبراير 2011، وجد أن مختبره لم يكن سوى مقاعد فارغة. ويقول إن الأمر استغرق عدة أسابيع للتعرف على المورّدين المحليين للكواشف التي هو بحاجة ماسة إليها وقطعة من المعدات - من المعقّبات عالية الإنتاجية إلى المفاعلات الحيوية الضوئية والمصفوفات الميكرويّة.

"لا تتوقع أن تجد ما أنت معتاد عليه"، يقول مشاقة. فعلى الرغم من توفّر جميع وسائل الراحة الحديثة والسحرالإقليمي، فإن الدوحة وأبو ظبي لديهما القليل مما يمكنهما تقديمه في مجال الحياة الليلية، كالحفلات الموسيقية والنوادي أو الحانات العصرية. والمؤسسات المحلية جديدة جدا ولم تثبت أنها تتمتع بما لجامعة أكسفورد أو هارفارد من سمعة أو تقاليد. إذا كنت تبحث عن بيئة بحثية مماثلة لتلك التي تتركها وراءك، فربما لن تكون منطقة الخليج هي ما تبحث عنه"، يتابع مشاقة. "ولكن إذا كان لديك ميل للمغامرة وكنت تبتهج بما هو جديد ومثير، فقد تكون هي المكان المناسب لك تماما". إن مشاكل التأسيس -كما يقول- ليست بالغريبة في حرم جامعي يصل عمره بالكاد إلى عشر سنوات في إطار عالم العلوم. ولكن البيروقراطية الحكومية ومديري البحوث يكتسبون المزيد من الخبرة والكفاءة، والبحوث المنتجة أمر ممكن.

حملة توظيف

في عام 2009، تخلى أبو ردّاد عن منصب مهم في مركز فريد هاتشينسون لأبحاث السرطان في سياتل، واشنطن، وانتقل الى قطر، متطلعا لأن يكون أقرب إلى وطنه الأردن، وراغبا في الحصول على التمويل غير المقيّد في WCMC -Q. "لقد أعطيت نفسي سنة واحدة لمحاولة معرفة كيف تسير الأمور هنا"، كما يقول. وقد تم تجاوز توقعاته بسهولة: فقد حصل على تمويل بقيمة 6 ملايين دولار على شكل منح لمشاريع التهاب الكبد وفيروس نقص المناعة البشرية من الصندوق القطري للبحث العلمي، وعيّن ستة من اختصاصيي الأبحاث (عمال مؤقتين من طلاب الدراسات العليا الذين يتلقون عادة تدريبا محليا) الذين وجد لديهم مواهب استثنائية. عندئذ قرر البقاء.

كان السعي لتوظيف حَمَلة الدكتوراه من العيار الثقيل تحدّيا في بداية الأمر، كما يقول. فقد أحجم الكثير عن قبول منصب أو مهمة في منطقة الشرق الأوسط. ولكن معظم أعضاء هيئة التدريس في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا وفروع الجامعات في المنطقة يجري حاليا تعيينهم من الخارج، وقد لحق بهم الباحثون عن وظائف مبكرة، من الحريصين على الاستفادة من التمويل والحوافز، كالسكن المجاني أو غير الباهظ داخل الحرم الجامعي، والنقل العام المجاني، والإعفاء من الضرائب. في السنوات القليلة الماضية، تمكن أبو رداد من توظيف باحثين من حملة الدكتوراه من كولومبيا واليابان وهونج كونج والولايات المتحدة. وفي الوقت الحالي هناك نحو 50 باحثا أجنبيا من حملة الدكتوراه في WCMC-Q، بعد أن كانوا خمسة فقط في عام 2009. والأحوال مماثلة في أماكن أخرى: ففي النصف الأول من هذا العام، وظفت جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا 15 أستاذا مساعدا وأستاذا مشاركا وأستاذا من الخارج.


ليث أبو ردّاد:
ليث أبو ردّاد: "البدء بأمر من الصفر والنهوض به يتطلب دفعا ذاتيا"

إن انتقال حرم جامعة نيويورك أبو ظبي المزمع القيام به سيخلق أكثر من 200 فرصة عمل للأساتذة وحَمَلة الدكتوراه من كافة مستويات الخبرة، استنادا إلى بانس نوموف، الكيميائي الذي انتقل العام الماضي من اليابان إلى أبو ظبي. ويذكر صالحي أشتياني أنه عندما كان يضع إعلانا عن وظيفة منذ خمس سنوات، كان بالكاد يتلقى بضعة طلبات، أما الآن فهو يتلقى العديد من الطلبات المنافسة طوال الأسبوع.

يقول أبو ردّاد إنه اختار الراغبين بالحصول على شهادة ما بعد الدكتوراه بعناية: فأيّ متقدّم يعتقد أن الإقامة في الشرق الأوسط لإجراء البحث طريقة لطيفة ومريحة للحصول على راتب جيد ولتلميع سيرته الذاتية كان مخطئا. "أتوقع من أفراد مجموعتي أن يكونوا مدفوعين بالرغبة والحماس نفسه الذي سيكون لديهم لو كانوا يسعون لتحقيق مستقبلهم المهني في الولايات المتحدة أو أوروبا أو اليابان"، كما يقول: "إن الحداثة النسبية للبحوث هنا لا تعني أن الأمور أكثر سهولة. فالبدء بأمر من الصفر والنهوض به يتطلب -في الحقيقة- قدرا كبيرا من القدرة على التحمل والدفع الذاتي".

هناك كثير من المكاسب التي تنتظر مَن سيغامرون بالقدوم إلى الشرق الأوسط. فالدوحة وأبو ظبي -كما هي حال دبي المجاورة- تضمّان أعدادا كبيرة من السكان المغتربين، مما أكسبهما هوية متعددة الثقافات تجعل استقرار الأجانب فيها سهلا نسبيا. واللغة الإنجليزية متداولة بطلاقة، ونسبة الجريمة منخفضة، والخروج إلى المطاعم أو المقاهي أو إلى الشاطئ في ليلة السبت أمر مألوف. أما المملكة العربية السعودية شديدة المحافظة دينيا فهي أكثر تقييدا بكثير من حيث المساواة بين الجنسين وفي بعض النواحي الأخرى، فالكحول ممنوع، على سبيل المثال (في حين أنه قانوني ولكن محدود في دولة الإمارات العربية المتحدة وقطر). ومع ذلك، تعمل جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا بوصفها حرما جامعيا مختلطا بين الجنسين وليس هناك أي وجود للشرطة الدينية السعودية على أرضها. من الممكن أن تختلط النساء بالرجال وأن يقدن السيارات أثناء وجودهن في الحرم الجامعي، ولسن بحاجة إلى ارتداء الزي الإسلامي إلا خارج حدود الحرم الجامعي، حيث يجب عليهن ارتداء ملابس محتشمة عند هذه النقطة.

حقوق المرأة محدودة أيضا في قطر، حيث يتمتع الرجال بوضع متميز بموجب قانون الدولة، وبدرجة أقل في دولة الإمارات العربية المتحدة. ينصح كوادروس أي شخص يفكر في الانتقال إلى الخليج بالذهاب إليه في رحلة استكشافية أو إجراء تدريب في الموقع أولا. فزوجته ماريا توريس -المختصة بفيزيولوجيا النبات، والتي بدأت بالإعداد لبحث ما بعد الدكتوراه في جينوم التمر في WCMC-Q في يونيو- كانت لديها آمال كبيرة، ولكن كانت عصبية أيضا. "عندما وصلت إلى قطر لأول مرة، كنت مهيّأة لأن أجد مكانا يتحدى حدودي الثقافية"، كما تقول. لكنها رأت خليطا من الثقافات واللغات والآراء في المختبر. "والمثير للدهشة، أن تجربتي في الولايات المتحدة عن حياتي كطالبة دكتوراه لم تتغير كثيرا".

doi:10.1038/nmiddleeast.2013.142