كيف آل الحال بشركة سلحت علماءها بأدوات الذكاء الاصطناعي؟
09 December 2024
نشرت بتاريخ 16 نوفمبر 2011
لقد انخفضت معدلات الوفيات بين الأطفال بمنطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على مدار العقود الأخيرة بخمسة أضعاف ما كانت عليه من قبل. ورافق هذا النجاح تحسن في نوعية الحياة للأطفال، وتعزيز نموهم خلال السنوات الأولى من أعمارهم. وشمل هذا الاعتراف بوجود مرض التوحد، وهي حالة طالما خفيت في معظم أنحاء الوطن العربي.
والتوحد هو عبارة عن اضطراب في النمو، يتجلى في ضعف التفاعل الاجتماعي مع الآخرين، وفي الأنماط السلوكية المحدودة، أو المتكررة. كما أنه يمثل عجز معقد طويل الأمد للطفل المصاب به، يظهر عادةً خلال السنوات الثلاث الأولى من العمر. وبالرغم من ذلك.. يتم في أغلب الأحيان إغفال تشخيص المرض، حتى مراحل لاحقة من عُمر الطفل، خصوصاً عندما تكون حالته معتدلة أو متوسطة.
وتشير أحدث التقارير إلى أن معدلات انتشار مرض التوحد في العالم العربي تتراوح ما بين 1.4 حالة بين كل 10 آلاف طفل في عمان، و29 حالة بين كل 10 آلاف طفل في الإمارات العربية المتحدة . وبالرغم من أن هذه المعدلات تعتبر أقل من مثيلاتها في البلدان المتقدمة، حيث تصل النسبة فيها إلى 39 حالة من المصابين بمرض التوحد بين كل 10 آلاف طفل ، وإلى 77 حالة من المصابين باضطرابات طيف التوحد بين كل 10 آلاف طفل ، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة تراجع معدلات انتشار هذه الحالة في العالم العربي.
وربما تقف وراء انخفاض معدلات الإصابة بالتوحد في المنطقة العربية عوامل عدة، منها صعوبة إجراء تشخيص سليم للأطفال المصابين، حيث إن أطباء الأطفال يفتقرون ـ بشكل نسبي ـ إلى الخبرة اللازمة لتشخيص الاضطرابات النفسية؛ والتعامل معها، مقارنة بأقرانهم الغربيين. وبصفة عامة، فثمة نقص في الأطباء المتخصصين في معالجة اضطرابات النمو لدى الأطفال في الشرق الأوسط.
وهناك عامل آخر يتمثل في نقص الوعي لدى الآباء فيما يتعلق باضطرابات طيف التوحد، ويشمل ذلك الإخفاق في التعرف على أعراض المرض؛ وبالتالي عدم طلب التشخيص والعلاج، خصوصًا في حالات الأطفال الذين يعانون أنماطًا معتدلة من التوحد. لذا، يمكن إرجاع التفاوت بين معدلات انتشار المرض بين العالمين العربي والغربي إلى نقص التشخيص، وعدم الإبلاغ عن الحالات التي تظهر عليها أعراض المرض.
تتميز الثقافات في منطقة الشرق الأوسط بسمات خاصة وقد تقوم فيها العادات المعيشية والغذائية بدور وقائي. ولكن أي ادعاءات ستمثل ضرباً من التكهنات نظرًا إلى قلة ـ أو انعدام ـ الأبحاث التي تتناول تأثير الثقافة على تشخيص مرض التوحد.
رغم أنه لم يتم حتى الآن تحديد الأسباب الدقيقة للإصابة بمرض التوحد، إلا أن المرض له أسس وراثية. وقد أجريت غالبية الأبحاث في هذا الشأن في الدول الغربية الصناعية، حيث اكتشف المرض ـ للمرة الأولى ـ رائد علم نفس الأطفال ليو كينر في عام 1943.
في دراسة سعودية، اكتشف الصالحي ورفاقه أن نسبة الثلث تقريبًا في مجموعة من الأطفال المصابين بالتوحد تربطهم صلة قرابة، مثل أنْ يكون آباؤهم أبناء عمومة من الدرجة الأولى والثانية. ويذكر أن معظم الزيجات بين الأقارب في العالم العربي تكون بين أبناء العمومة من الدرجة الأولى. وهذا النوع من الزيجات منتشر إلى حد ما، حيث يتراوح ما بين 34% و80% من بين كل الزيجات في المملكة العربية السعودية، وذلك بحسب المكان، حيث تعلو النسبة في المناطق الريفية، عنها في الحضر والضواحي.
ورغم أن نتائج الدراسة لا تربط بشكل مباشر بين حالات التوحد في العالم العربي، وعامل القرابة، إلا أنها تلمح إلى أن نسبة الإصابة ترتفع بين العائلات السعودية، مما يجعل أفرادها المرشحين الأوائل للخضوع لعمليات فحص؛ للتعرف على المتغيرات الوراثية لديهم؛ بغية تحديد دورالعمليات البيولوجية في هذه الإصابة.
من خلال التشخيص والتدخل المبكرين وحدهما، يمكننا أن نأمل في تحسين نوعية حياة مصابي التوحد، الذين غالبًا ما تتجاهلهم الدولة.
وبالإضافة إلى أهمية إجراء الأبحاث عن أصل المرض، تحتاج الحكومات العربية إلى توفير خيارات أفضل، وفرص للعائلات التي تضم حالات توحد؛ للكشف عن هذه الحالات، وتشخيصها؛ وعلاجها؛ من أجل توفير حياة أفضل لهم
ورغم أنه لا يوجد حتى الآن علاج معترَف به لاضطرابات طيف التوحد، فثمة أشكال متنوعة من التدخل الطبي والسلوكي، من شأنها أن تحسِّن من حياة الأطفال المصابين. وهناك اتفاق عام في الرأي على أنه كلما كان التدخل مبكرًا في مرحلة الطفولة؛ كان أكثر فعالية. وتشمل أشكال التدخل العلاجي: الأنماط التعليمية والسلوكية (كالتحليلات التطبيقية للسلوك، وجلسات التدريب على مهارات اللغة والتطور الاجتماعي، والوصفات العلاجية لبعض الأعراض (كالقلق، والاكتئاب، والنشاط الزائد، وكذا السلوكيات القهرية والمندفعة. كما أن هناك العلاج الخاص، حيث يصمَّم برنامج العلاج وفقًا للاحتياجات الفردية لكل مريض.
ويمثل الاعتناء بمريض التوحد عملية مكلفة، وعبئًا على الموارد المالية للعائلة. وقد وجدت دراسة حديثة عن التأثير الاقتصادي لمرض التوحد في مصر أن نسبة تتراوح ما بين 83.3% و91.3% من مرضى التوحد يعيشون في منزل عائلاتهم. وتُرْجِع الدراسة السببَ في اضطرار الأُسَر للإبقاء على أبنائها المصابين بهذا المرض في منزل العائلة لأجل غير معلوم، وحتى فترة بلوغهم، إلى ندرة وتكلفة وبُعْد الأماكن المخصصة للمرضى من الأطفال وكبار السن، مثل دور الرعاية الاجتماعية.
وفي حين يتم إدراج الأطفال المصابين بالتوحد في الدول المتقدمة بشكل عام في المعاهد الدراسية العادية، أو المخصصة لهم، يتلقى المصابون بهذا المرض في مصر تعليمهم في المنزل. وبالرغم من أن نسبة تتراوح ما بين 54.7% و62.7% من مصابي مرض التوحد في مصر - الذين شملتهم الإحصاءات - هم من الفئة العمرية الدراسية ما بين 4 و22 سنة، إلا أن أقل من 25% من تلك النسبة سجلوا بالفعل في المدارس. وقد برر معظم الآباء وأفراد العائلات الإبقاء على أبنائهم المرضى بالمنزل بوجود عوائق في النمو والتعلم، فضلاً عن شعور المريض بأنه منبوذ من أقرانه.
ولا تستطيع معظم العائلات تحمل التكاليف الباهظة لمدارس ذوي الاحتياجات الخاصة، التي تقع في المدن. ويحصل معظم الأطفال المتوحدين في سن الدراسة على تعليمهم في المنزل ـ بصفة غير رسمية ـ على أيدي إخوانهم، ووالديهم، وجدودهم، وأصدقائهم. وتسعى بعض المنظمات غير الربحية، كالجمعيات العربية لمرضى التوحد، إلى التخفيف من حدة تلك المشكلة عن طريق توفير التعليم المتخصص، وتوعية الآباء، ولكن يبقى أمام تلك المنظمات الكثير لتقديمه إلى الأطفال المصابين بمرض التوحد.
كما أن على الحكومات مسئولية أخلاقية لدعم الأطفال المتوحدين، إذ ينبغي على وزارات التعليم الجامعي المختلفة تحديد عدد المدرسين المدرَّبين على المهارات المطلوبة، الذين تحتاجهم الدولة لمساعدة جميع الأطفال المصابين بالتوحد على بدء حياة طبيعية جيدة.
وعلى المدى القصير، يحتاج أطباء الأطفال إلى إعادة تدريبهم على تمييز الملامح الأساسية لمرض التوحد، وما يتصل به من تشخيصات متفاوتة، وخيارات للتعامل. ونظرًا إلى القلة النسبية في أعداد أطباء النفس المتخصصين في معالجة الأطفال في العالم العربي، فينبغي تكرار هذا التدريب بصورة منتظمة. وعلى حد علمي.. لم تتبنَّ أي مؤسسة تعليمية في المنطقة هذا النهج حتى الآن.
أما على المدى الطويل، فثمة حاجة إلى أن يُضَمّ تشخيص مرض التوحد، والتعامل معه إلى مناهج كليات الطب. وحتى الآن، يعد التركيز على التعليم النفسي في العالم العربي ضعيفًا، كما أن تلك المناهج الشحيحة لا تتناول نفسية الأطفال، أو اضطرابات النمو التي يعانونها.
أما الجهات الحكومية المعنية، فهي مطالَبة بضمان حصول الآباء على معلومات ذات مستوى رفيع، بعد تشخيص إصابة أبنائهم بالمرض. وحاليًا، تتولى المنظمات غير الحكومية سد هذه الفجوة، وتوفير تلك المعلومات للآباء.
من خلال التشخيص والتدخل المبكرين وحدهما، يمكننا أن نأمل في تحسين نوعية حياة مصابي التوحد، الذين غالبًا ما تتجاهلهم الدولة.
doi:10.1038/nmiddleeast.2011.154
تواصل معنا: