أخبار

استقالة رئيسة جامعة هارفارد تطرح أسئلة حول مفهوم السرقة العلمية

نشرت بتاريخ 6 فبراير 2024

ادعاءات السرقة العلمية الموجَّهة إلى كلاودين جاي أشعلت جدلًا في صفوف الباحثين حول المعايير والممارسات الأكاديمية.

جيف توليفسون

يرى بعض الأكاديميين ألا حرج في النقل الحَرفي من عمل بحثي آخر، ما دامت قواعد الاستشهاد مرعية.
يرى بعض الأكاديميين ألا حرج في النقل الحَرفي من عمل بحثي آخر، ما دامت قواعد الاستشهاد مرعية.
Credit: ersinkisacik/Getty

السرقة العلمية (plagiarism) واحدة من أقدم الجرائم الأكاديمية، ومع ذلك فإن استقالة كلاودين جاي من رئاسة جامعة هارفارد على خلفية اتهامها بالسرقة العلمية، أحيت جدلًا مستعرًا بين مستخدمي الإنترنت، حول الحالة التي يكون فيها النقل من عمل بحثي مخالفةً تستوجب العقاب. بل إن هناك من الأكاديميين مَن يدعو صراحةً إلى اعتماد نموذج نشر أقل تشددًا، يُبيح للباحث أن ينقل أكثر، ويكتب أقل، مادام المصدر المنقول منه مذكورًا بشكل صريح.

بالنسبة للكثيرين، تبقى فكرة إلزام الباحث بصياغة جُمَله بنفسه مبدأً أساسيًا لا غنى عنه. ولكن هذا الرأي قد يواجه مقاومة جديدة في عالم أصبحت فيه إمكانية الوصول إلى المعلومة غير محدودة، فضلًا عن خوارزميات الذكاء الاصطناعي، الآخذة في التطور على الدوام، والتي صار بإمكانها إنتاج النصوص بدقة تتَّسع لها الأحداق دهشًا.

يقول ليور باختر، عالِم البيولوجيا الحاسوبية بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في باسادينا: "أعتقد أن فكرة النهي القاطع والتام عن النقل من آخرين هي فكرة عفا عليها الزمن بعض الشيء"، مضيفًا أن ما يعنينا في هذا المقام هو ضمان عزو المعلومات بالشكل المناسب. وذكر أن المجال الأكاديمي يواجه مشاكل أكبر، منها، مثلًا، ما يتصل باختلاق (أو فبركة) البيانات.

وفي هذا التقرير، تسلط دورية Nature الضوء على المناقشات الجارية، التي صاحبت الإطاحة بجاي من رئاسة جامعة هارفارد، وكيف أن مفهوم السرقة العلمية يتغيَّر في عصر الذكاء الاصطناعي.

ما علاقة جاي بهذا النقاش؟

في الخامس من ديسمبر الماضي، أدلت كلاودين جاي، وهي أول رئيسة سوداء لجامعة هارفارد، ومقرُّها مدينة كامبريدج بولاية ماساتشوستس الأمريكية، بشهادةٍ مثيرة للجدل أمام الكونجرس الأمريكي. كانت جاي، ومعها رئيستا جامعتين أمريكيتين أخريين — هما إليزابيث ماجيل، رئيسة جامعة بنسلفانيا بولاية فيلادلفيا، وسالي كورنبلوث، رئيسة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي) بمدينة كامبريدج — قد تعرَّضن للمساءلة بشأن ادعاءات السماح بأنشطة معادية للساميّة داخل الحرم الجامعي في أعقاب اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس. جاءت إجاباتهن مشدِّدةً على التزام المؤسسات التي يرأسنها بحرية الرأي والتعبير، غير أنها لم تتضمن شجبًا صريحًا لمعاداة الساميّة. وهي الإجابات التي أثارت موجة إدانة واسعة، ووضعت الرئيسات الثلاث تحت المجهر.

وبموازاة ذلك، طرحت مجموعة من الناشطين المحافظين، ومعهم عدد من المطبوعات العلمية، سلسلة من الادعاءات التي تتهم جاي بسرقة أجزاء في مؤلفاتها البحثية، ومنها رسالة الدكتوراه. وهناك مَن وقف في صف جاي، ورأى أن الأمر لا يعدو أن يكون حملةً موجَّهة، باعثها سياسي، وأن قواعد السرقة العلمية المطبَّقة عليها يشوبها عَسَفٌ وتعنُّت، وأنها وُضعَت على عَجل، وأن تطبيقها كان تطبيقًا أعمى، ليس مبنيًّا على تحقيق نزيه ومعمَّق.

على أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد. فقد تعهَّد بيل أكمان — الملياردير الأمريكي الذي يقدِّم تبرعات للمؤسسات الأكاديمية، وهو من بين الذين ضغطوا من أجل الإطاحة بجاي من منصبها — تعهَّد بإجراء مسحٍ شامل للكشف عن السرقة العلمية في جميع الأعمال البحثية المنشورة لجميع أعضاء هيئة التدريس وأعضاء مجلس الجامعة في معهد «إم آي تي»، وربما في مؤسسات أكاديمية أخرى. تأتي هذه الخطوة بعد أيام من كشف موقع «بيزنس إنسايدر» Business Insider عن ادعاءات مماثلة تتهم زوجة أكمان، نيري أوكسمان، بالسرقة العلمية، وهي التي سبق لها أن شغلت منصبًا جامعيًا معنيًّا بالبحث في المواد وتصميمها في معهد «إم آي تي».

هل ثمة إجماع على تعريف السرقة العلمية؟

لن تكاد تجد خلافًا على التعريف الذي وضعته الحكومة الأمريكية للسرقة العلمية: "الاستيلاء على أفكار شخص آخر، أو إجراءاته، أو نتائجه، أو كلماته دون نسبتها إليه بالطريقة الملائمة". لكن يبدو أن هذا أقصى ما يمكن الاتفاق عليه.

يذهب بعد الباحثين المتخصصين في السرقة العلمية أن جاي قد نقلت أجزاء نصّية من أعمال بحثية أخرى دون عَزْوِها إلى أصحابها بشكلٍ سليم. ومن جهتها، وافقت جاي على إجراء تعديلات وتصويبات عدَّة على رسالة الدكتوراه، وبعضٍ من أعمالها البحثية الأخرى، قُبيل تقديم استقالتها. يذهب البعض إلى أن هذا الإجراء كان ضروريًا للحفاظ على ثقة عموم الناس في العلم. تقول ناومي أوريسكس، مؤرخة العلوم بجامعة هارفارد: "جميعنا معرَّضون للخطأ بين الحين والحين، ولكن أما وقد تبدَّى للعلن أن الأخطاء في أعمال جاي البحثية تتجاوز حاجز المشكلات البسيطة والقليلة، فأعتقد أنها لم يكن أمامها سوى التنحّي عن منصبها".

فيما يرى آخرون أن المخالفات المدَّعاة لا تعدو كونها هناتٍ بسيطة على أبعد تقدير. ويقولون إن جاي، وهي أستاذة في العلوم السياسية، لم تفعل أكثر من تلخيص الأدبيات العلمية، بما ينسجم مع الأعراف المرعيَّة في مجال تخصصها، وبما لا ينتقص من قيمتها البحثية. تقول ألفين تيلري، أستاذة العلوم السياسية بجامعة نورث ويسترن في مدينة إيفانستون بولاية إلينوي: "حين تناهت إلى أسماعنا أخبار ادعاءات السرقة العلمية تلك، كان رد فعلنا، ونحن مجتمعون في أحد أروقة الجامعة، شيئًا من نوع: إذا كان الأمر كذلك، فتهمة السرقة العلمية تحوم فوق رؤوسنا جميعًا". وكانت تيلري تعرف جاي عندما كانتا باحثتين في مرحلة الدراسات العليا.

يُبرز هذا الخلاف تحديًا جوهريًّا يواجه جهود تقييم ادعاءات السرقة العلمية: وهو أن التعريف الرسمي لا يفرّق بين الاستعارة حسنة النيَّة لكلمةٍ هنا وعبارة هناك، وبين السرقة بالجملة لأفكار وأجزاء كاملة من النص. ومن هنا أتت دعوة بعض الأكاديميين إلى وضع قواعد من شأنها إجلاء الفرق بين الأمرين.

زِد على ذلك أن السرقة العلمية لا تشكِّل في حد ذاتها نموذجًا لسوء السلوك البحثي، حسبما ذكرت لوران كوالكنبوش، التي ترأس الرابطة الوطنية الأمريكية لأخصائيّي النزاهة البحثية، وتقيم في شيكاغو بولاية إلينوي. وأوضحت أن مؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية (NSF)، وهي من أكبر الجهات المموِّلة للبحث العلمي، وضعت تعريفًا لسوء السلوك البحثي. ولكي يوصف الفعل بأنه سوء سلوك بحثي، اشترطت المؤسسة في تعريفها وجود دليل على أن السرقة العلمية قد ارتُكبَتْ عن عمد، أو بمعرفة الباحث، أو بإهمالٍ منه، وأن يمثل هذا الفعل "مفارقةً صارخة للممارسات المتبَعة" في الحقل العلمي موضع النظر. ولذلك فإن "السياق ضروري" في التفريق بين الحالات المختلفة، حسبما ذكرت كوالكنبوش.

ما حدث لجاي دفع بعض العلماء إلى التساؤل عن أهمية مطالبة الباحث بتقديم تلخيص جديد للحقائق المعروفة ذات الصلة بموضوع البحث في قسمَي المقدمة والمنهجيات المسخدمة من ورقته البحثية الجديدة. ومما يُطرح في هذا الشأن، طريقة يُطلق عليها طريقة «الكتابة التركيبية»، أو الكتابة بالوحدات، التي تُبيح للباحثين اقتباس أجزاء من أعمال أقرانهم بشكل أكثر تحررًا، لتكون نماذج للأدبيات العلمية في موضوع البحث، شريطة ذِكر المصدر. يمكن لهذه الطريقة أن تكون مفيدة، بوجه خاص، للباحثين الذين لا يتحدثون الإنجليزية بوصفها لغتهم الأم، حسبما ذكرت عالمة الفيزياء النظرية سابين هوسنفلدر في تعليقها على منصة التواصل الاجتماعي «إكس» عقب استقالة جاي. كتبَتْ تقول: "لا فائدة مطلقًا من مطالبة الجميع تقريبًا بتقديم ملخص للأدبيات العلمية في موضوع البحث بأسلوبهم الخاص، مع ما ينطوي عليه ذلك من تكرار لا طائل تحته، في حين أن تحديثات أو إضافات بسيطة يقدِّمها باحث لما كتبه باحث آخر يمكن أن تفي بالغرض".

أما باختر فتستهويه فكرة العمل التشاركي في مجال علوم الحاسب، وهو المجال الذي يجنح فيه المبرمجون وكُتَّاب الأكواد البرمجية إلى البناء على ما عمل أترابهم. يقول: "سيكون من الغريب أنه كلما أقدم أحدهم على تطوير برنامج جديد، يبدأ فيه من الصفر". وأشار إلى أنه مما أصبح مباحًا للباحثين بالفعل أن ينقلوا أجزاءً بكاملها من أعمال بحثية أخرى، شريطة الحصول على حقوق النشر المحددة، وعلى أن يراعوا اعتبارات العزو والاستشهاد السليمة.

وأما مايكل دُورتي، الباحث المتخصص في شؤون السرقة العلمية بجامعة أوهايو دومينيكان في مدينة كولومبوس الأمريكية، فيرى أنه حتى في حال تمرير هذا التعديل في المجال الأكاديمي، فلابد أن تبقى القواعد الأساسية المنظِّمة للاقتباس والاستشهاد كما هي، بدون تغيير. يقول: "بدون نسبة المعلومات إلى أصحابها، ليس هناك مسؤول عما يُقدَّم في العمل البحثي على أنه صحيح وموثوق فيه. ولا يمكننا التخلي عن مبدأ المسؤولية".

كيف غيَّر الذكاء الاصطناعي قواعد اللعبة فيما يتصل بكشف السرقة العلمية؟

أمكن كشف المقاطع الإشكالية في أبحاث جاي عن طريق برنامج يمكنه التحقق من حالات التطابق بين النص وأي منشور رقمي تقريبًا: بدءًا من الدوريات العلمية المحكَّمة حتى الموسوعة الحرَّة «ويكيبيديا». وتقول كوالكنبوش إن قرار الاعتماد على برنامج كهذا، إن اعتُمد عليه، يتوقَّف عادةً على أساتذة الجامعة، والمؤسسات الأكاديمية، والوكالات البحثية، وإن طريقة استخدامه تختلف من شخصٍ لآخر، ومن جهةٍ لأخرى. مؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية، على سبيل المثال، تُخضع جميع طلبات المِنح للتدقيق عبر برنامج كهذا. وكذلك فإن الكثير من الدوريات الأكاديمية، ومنها دورية Nature، تستخدم هذا البرنامج لفحص مسوَّدات الأبحاث (علمًا بأن لدورية Nature فريق أخبار مستقلًّا عن فريق الأبحاث).

إلا أن الخبراء المتخصصين في شؤون السرقة العلمية يشيرون إلى عددٍ من أوجه النقص التي تعتري هذه البرامج. أولًا، لن يكون في إمكان هذه البرامج كشف جميع حالات التطابق؛ وهذا تحدٍّ لن يزيد إلا وعورةً مع الاعتماد على أدوات الذكاء الاصطناعي، مثل روبوت الدردشة «تشات جي بي تي»، الذي يستطيع استبدال الكلمات، وإعادة صياغة النصوص حسب الحاجة. وأخرى لا ينبغي أن تفوتنا، وهي أن برامج كشف السرقة العلمية لا تستطيع مراعاة الأعراف الأكاديمية والتعريفات المستقرة، كما تعجز عن تحديد ما إذا كان النص المنقول يدخل في باب السرقة العلمية حقًا، أم أن وجوده ضروري للوصول إلى استنتاجات العمل البحثي.

مع تطوُّر تقنيات الذكاء الاصطناعي أكثر فأكثر، لا يبعُد أن يأتي علينا يوم يختفي فيه مفهوم السرقة العلمية تمامًا، كما يرى دُورتي، الذي يضيف متسائلًا: "لماذا تنقل نصًّا إذا كان في إمكانك، وبالسهولة نفسها، إنتاج نصٍّ جديد"؟

 

doi:10.1038/nmiddleeast.2024.48