مقالات

نوبل الكيمياء عامَ 1943.. رقصاتُ النظائر

نشرت بتاريخ 23 ديسمبر 2023

في سيمفونيةِ الكونِ الكبرى، حيثُ تتصادمُ الذراتُ وتتحدُ العناصر، يتكشفُ تفاعلٌ دقيقٌ بينَ النظائر

محمد منصور

للأستماع للحلقة أضغط على هذا الرابط

Enlarge image
منْ داخلِ قلوبِ النجومِ النارية، ظهرتِ العناصر. ومعها ظهرَ الرفاقُ؛ أوِ النظائر.

في سيمفونيةِ الكونِ الكبرى، حيثُ تتصادمُ الذراتُ وتتحدُ العناصر، يتكشفُ تفاعلٌ دقيقٌ بينَ النظائر. والتي هيَ متغيراتٌ لعنصرٍ كيميائيٍّ معينٍ لهُ عددُ البروتوناتِ نفسُه ولكنْ بأعدادٍ مختلفةٍ منَ النيوتروناتِ في أنويتِها الذرية. بعبارةٍ أخرى، هيَ أشكالٌ مختلفةٌ منْ عنصرٍ بكتلٍ ذريةٍ متفاوتة.

هؤلاءِ الرفقاءُ الذريونَ يدورونَ منْ خلالِ التفاعُلاتِ الكيميائية، ومنذُ أنْ تحدثَ عنْ وجودِهم لأولِ مرةٍ "فريدريك سودي" وطورَ مفهومَهم مساعدُه "إرنست رذرفورد" في أوائلِ القرنِ العشرين؛ أسرَ سرُّ وجودِهم العلماءَ والفنانينَ على حدٍّ سواء.

حينَ تتخيلُ نسيجًا منسوجًا بخيوطٍ ذاتِ ألوانٍ لا حصرَ لها، يمثلُ كلٌّ منها عنصرًا. فداخلَ هذا النسيجِ الرائع، يكمنُ سرٌّ مخفي؛ فكلُّ خيطٍ يمتلكُ تنوعات، هيَ نظائرُ منْ كتلٍ مختلفة. تتشابهُ النظائر، مثلَ الأشقاءِ في الأسرة، لكنَّها تمتلكُ صفاتٍ مميزةٍ وفريدةٍ في اللوحةِ الكونية.

 في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثلاثةٍ وأربعين؛ وبعدَ أنْ حُجبتْ جائزةُ نوبل الكيمياءِ لمدةِ ثلاثِ سنواتٍ كاملة، أهدتِ المؤسسةُ جائزتَها لـ"جورج دي هيفسي".. الرجلِ الذي استخدمَ رقصاتِ النظائرِ في فهمِ العناصرِ الكيميائية.

عندما كانَ "هيفسي" يعملُ في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثلاثةَ عشَرَ معَ "إرنست رذرفورد" في مانشستر، تمَّ تكليفُه بعزلِ الراديومِ D عنِ الرصاصِ المشِع.

كانتْ جهودُه غيرَ ناجحة. بعدَ أنْ أصبحَ منَ الواضحِ أنَّ الراديومَ D المشعَّ يختلفُ قليلًا عنِ الراديومِ G غيرِ النشط، لدرجةِ أنَّ جميعَ محاولاتِ عزلِ بعضِها عنْ بعضٍ بدتْ محكومًا عليها بالفشل؛ إذْ يختلفُ العنصرانِ في وزنِهما الذريِّ بينما ذراتُها لها الشحنةُ النوويةُ نفسُها. وبالتالي فإنَّ أغلفةَ إلكتروناتِها، وهيَ تشبهُ الأصدافَ التي تحددُ خصائصَها الكيميائية، تبدو متطابقةً إلى حدٍّ ما.

وعلى الرغمِ منْ عدمِ نجاحِ جهودِه، إلا أنَّها لم تُهدَر. فقدْ أعطتْه فكرةَ طريقةٍ جديدةٍ للبحثِ الكيميائي.

Oak Ridge National Laboratory Enlarge image
إذا كانْ منَ المستحيلِ عزلُ نظيرٍ مشعٍّ كيميائيًّا عنْ عنصرٍ هوَ جزءٌ منه، فيجبُ أنْ يكونَ منَ الممكنِ استخدامُ هذهِ الخصوصيةِ لمتابعةِ سلوكِ هذا العنصرِ في تفاصيلِه في أثناءِ التفاعلاتِ الكيميائيةِ والعملياتِ الفيزيائيةِ منْ أنواعٍ مختلفة.

قيامُ "هيفسي" بتطويرِ ونشرِ تقنيةِ استخدامِ النظائرِ المشعةِ كعلاماتٍ لتتبُّعِ حركةِ العناصرِ في التفاعلاتِ الكيميائيةِ والأنظمةِ البيولوجية. منْ خلالِ وسمِ ذراتٍ معينةٍ داخلَ مركبٍ بالنظائر، يمكنُه اتباعُ مساراتِها وتحولاتِها، مما يوفرُ رؤىً قيمةً في التفاعلاتِ الكيميائية.

ففي عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وأربعةٍ وثلاثين، استخدَمَ نظيرَ الرصاصِ مئتينِ وعشرة 210 المشعَّ لدراسةِ ترسُّبِ وإزالةِ الرصاصِ في البيئة. وأظهرتْ هذهِ الدراسةُ الرائدةُ التطبيقَ العمليَّ لاستخدامِ النظائرِ كعلاماتٍ في البحثِ البيئي.

وامتدَّ أثرُ عملِه إلى مجالاتِ علمِ الأحياءِ والطب. بعدَ أنْ قامَ العلماءُ بتطبيقِ النظائرِ المشعةِ كعلاماتٍ لدراسةِ العملياتِ البيولوجيةِ مثلَ التمثيلِ الغذائيِّ وامتصاصِ المغذياتِ وتخليقِ البروتين. أسهمَ بحثُه في فهمِ هذهِ العملياتِ وفتحَ آفاقًا جديدةً للتشخيصِ الطبيِّ والعلاج؛ فمهدتْ أعمالُه الطريقَ للاستخدامِ الواسعِ للنظائرِ المشعةِ في مختلِفِ التخصصاتِ العلمية، متضمنةً الكيمياءَ والبيولوجيا والطبَّ والعلومَ البيئية.

في عالمِ الاكتشافِ العلمي، يبرزُ بعضُ الأفرادِ كروادٍ حقيقيينَ، أحدثُوا ثورةً في مجالاتِهم بأفكارٍ رائدةٍ وأساليبَ مبتكرة. كانَ جورج دي هيفسي، الكيميائيُّ المجريُّ، أحدَ هؤلاءِ النجومِ البارزينَ الذين قدمُوا إسهاماتٍ لا تُمحى في مجالِ الكيمياءِ الإشعاعية. عملُه الرائدُ في استخدامِ النظائرِ كعلاماتٍ في دراسةِ العملياتِ الكيميائيةِ وضعَ الأساسَ للتقدمِ الكبيرِ في مختلِفِ التخصصاتِ العلمية.

وُلدَ جورج تشارلز دي هيفسي في الأولِ منْ أغسطس عامَ ألفٍ وثَمانِمئةٍ وخمسةٍ وثمانينَ في بودابست لعائلةٍ أرستقراطيةٍ ثريةٍ تربطُها علاقاتٌ جيدةٌ بالإمبراطور. وكانَ الخامسَ منْ بينِ ثمانيةِ أطفال. كانَ والدُه لايوس بيشيتز، المديرَ العامَّ لشركةِ التعدينِ والمعادن. والدتُه كانتِ البارونةَ يوجينيا دي تورنيا، التي كانتْ تمتلكُ مزارعَ يديرُها زوجُها.

في سنواتِه الأولى، تلقَّى جورج تعليمَه على يدِ مدرسينَ خصوصيين. تخرجَ في مدرسةِ بياريستا الكاثوليكيةِ في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثلاثة، وعمرُه سبعةَ عشَرَ عامًا. وفي سنتِه الأخيرةِ تخصصَ في الرياضياتِ والفيزياء. 

بعدَ عامٍ في جامعةِ بودابست، انتقلَ إلى ألمانيا عازمًا على دراسةِ الهندسةِ الكيميائيةِ في المدرسةِ الثانويةِ الفنيةِ في برلين. ومعَ ذلكَ، أصيبَ بالتهابٍ رئويٍّ ونُصحَ بقضاءِ بعضِ الوقتِ في جامعةٍ ذاتِ مناخٍ أكثرَ دفئًا. في أبريل عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وخمسة، توجهَ إلى فرايبورغ في جنوبِ غربِ ألمانيا لفترةٍ دراسيةٍ واحدة. لكنِ؛ انتهى بهِ الأمرُ بالبقاءِ هناكَ وإكمالِ الدكتوراة. 

تخرجَ "هيفسي" بدرجةِ الدكتوراة في خريفِ عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثمانية، وعمرُه ثلاثةٌ وعشرونَ عامًا. نظرتْ أطروحتُه في التفاعُلِ بينَ هيدروكسيدِ الصوديومِ المصهورِ ومعدنِ الصوديوم.

مباشرةً بعدَ حصولِه على الدكتوراة، انتقلَ " هيفسي" كمساعدِ ما بعدَ الدكتوراة إلى المدرسةِ الثانويةِ التقنيةِ في زيورخ، سويسرا لدراسةِ الكيمياءِ والكيمياءِ الكهربيةِ للأملاحِ المنصهرة. في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وتسعة، أصبحَ ألبرت أينشتاين أستاذًا هناك. كانَ "دي هيفسي" منْ بينِ عشرينَ شخصًا استمعُوا إلى محاضرتِه الأولى.

بعدَ فترةٍ قصيرةٍ منَ العملِ معَ الحاصلِ على جائزةِ نوبل الكيمياءِ لعامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثمانيةَ عشَرَ "فريتز هابر" في كارلسروه، حيثُ تعلمَ طريقةَ "هابر" التي غيّرتِ العالمَ وساعدتْ على تخليقِ الأمونيا، توجهَ "هيفسي" إلى مختبرِ الحاصلِ على جائزةِ نوبل الكيمياءِ لعامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثمانية "إرنست رذرفورد" في جامعةِ مانشستر. 

ففي وقتٍ مبكرٍ منْ عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وأحدَ عشَرَ، في سنِّ الخامسةِ والعشرين، وصلَ هيفسي إلى مانشستر، إنجلترا. كانَ مريضًا للغايةِ في الأيامِ الثلاثةِ الأولى لهُ بعدَ أنْ عانى منْ دُوارِ البحرِ الرهيبِ في أثناءِ العبورِ منْ هولندا. أصبحَ صديقًا لنيلز بور وهنري موسلي، الفيزيائيِّ الشابِّ اللامعِ الذي كانَ منَ المقدَّرِ له أنْ يموتَ بعدَ أربعِ سنواتٍ فقط.

في الفترةِ التي قضاها في مانشستر، بحثَ هيفسي في قابليةِ ذوبانِ العناصرِ المشعةِ قصيرةِ العمر (بنصفِ عمرٍ يبلغُ بضعَ ثوانٍ) في الماء، وتكافؤِ الأيوناتِ المشعةِ وفقًا لمعدلاتِ انتشارِها في المحلول، وكيفيةِ فصلِ انبعاثِ الراديومِ عنِ الرصاصِ - كانَ هذا مستحيلًا في ذلكَ الوقتِ، لأنَّ الراديوم D هوَ في الواقعِ مئتينِ وعشرة 210 رصاص، وهوَ نظيرٌ مشعٌّ للرصاص.

يقولُ "هيفسي" عنْ تلكَ الفترة: "كانتِ السنواتُ التي حظيتُ بامتيازٍ لقضائِها في مختبرِ رذرفورد في مانشستر، بينَ عامَي ألفٍ وتِسعِمئةٍ وأحَدَ عشَرَ وألفٍ وتِسعِمئةٍ وأربعةَ عشَرَ، قدْ شهدتْ بعضًا منْ أعظمِ الاكتشافاتِ في تاريخِ الفيزياء. أمكننَي أنْ أتابعَ عنْ كثَبٍ اكتشافَ النواةِ الذريةِ وكيفَ ابتكرَ رذرفورد ونفذَ وفسَّرَ نتائجَ التجارب. تمَّ كلُّ هذا بأقصى سهولةٍ ومنْ دونِ جهدٍ واضح". 

في تلكَ الفترة؛ شكَّ "هيفسي" في أنَّ صاحبةَ منزلِه في مانشستر كانتْ تضعُ كميةً منَ الطعامِ المُعادِ تدويرُه في الوجباتِ التي تقدمُها له. تحداها في هذا الأمر، لكنَّها أنكرتْ ذلك. 

أجرى تجربةً لمعرفةِ الحقيقة، ورشَّ كميةً ضئيلةً منَ الموادِّ المشعةِ على الطعامِ الذي تركَه على طبقِه. في اليومِ التالي، أظهرَ المكشافُ الذي أحضرَه منَ المختبرِ أنَّ الحساءَ الذي قدمتْه له كانَ مشعًّا، مما يثبتُ أنَّها كانتْ تقدمُ بقايا الطعام.. كانتْ تلكَ هيَ المرةُ الأولى التي يستخدمُ فيها "هيفسي" الموادَّ المشعةَ لتتبُّعِ أيِّ شيء. كانتْ تلكَ أيضًا هيَ بدايةُ الطريقِ للفوزِ بجائزةِ نوبل. 

عندما بدأتِ الحربُ العالميةُ الأولى، كانتْ بريطانيا والنمسا والمجر على طرفَيْ نقيض. عادَ هيفسي إلى فيينا وانتهى بهِ المطافُ في الجيشِ كمشرفٍ تقنيٍّ في مصانعِ النحاس. عندما انتهتِ الحرب، أصبحَ محاضرًا في الفيزياءِ التجريبيةِ في مسقطِ رأسِه في بودابست. 

في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وعشرينَ، قبِلَ هيفسي دعوةَ صديقِه نيلز بور لإجراءِ أبحاثٍ في جامعةِ كوبنهاغن في الدنمارك. في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وواحدٍ وعشرين، بدأَ العملَ في معهدِ بور للفيزياءِ النظرية. 

وقتَها؛ كانَ لدى "هيفسي" ثقةٌ كبيرةٌ بقدرتِه وطاقةٌ لا حدودَ لها للعمل. وبالفعلِ؛ تُوِّجتْ جهودُه بابتكارِه طريقةً لاستخدامِ النظائرِ المشعةِ لتتبُّعِ حركةِ العناصرِ الكيميائيةِ وتفاعُلاتِها المختلفة. 

في سبتمبر عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وأربعةٍ وعشرين، تزوجَ هيفسي "بيا ريس" ابنةَ صاحبِ سفينةٍ دنماركيةٍ تبلغُ منَ العمرِ اثنينِ وعشرينَ عامًا. ورُزقَ منها بابنٍ وثلاثِ بنات. 

أدى عملُ "هيفسي" إلى عروضِ أستاذيةٍ منْ عدةِ جامعاتٍ ألمانية. في البداية، رفَضَها. وبعدَ ذلك؛ قامَ هوَ وزوجتُه بزيارةِ جامعتِه القديمةِ في فرايبورغ في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وخمسةٍ وعشرينَ وقررَ كلاهُما أنها ستكونُ مكانًا ممتعًا للعيشِ والعمل. تمَّ تعيينُ هيفسي أستاذًا للكيمياءِ الفيزيائيةِ في فرايبورغ، وانتقلَ إلى هناكَ في أبريل عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وستةٍ وعشرين.

في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثلاثين؛ انتقلَ هيفسي إلى الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ ليعملَ أستاذًا زائرًا لمدةِ عامٍ واحدٍ في جامعةِ كورنيل.

وفي عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وواحدٍ وثلاثينَ، اكتشفَ الحاصلُ على جائزةِ نوبلِ الكيمياءِ لعامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وأربعةٍ وثلاثينَ "هارولد أوري" الديوتيريوم، وهوَ النظيرُ الثقيلُ للهيدروجين. يُعرفُ الماءُ المصنوعُ منَ الديوتيريوم بالماءِ الثقيل. كانَ أوري وهيفسي صديقينِ منذُ أنْ عمِلا معًا في معهدِ نيلز بور. طلبَ هيفسي منْ أوري بعضَ الماءِ الثقيل. أرسلَ له أوري بضعةَ لتراتٍ منَ الماءِ تحتوي على ستةٍ في الألفِ منَ الماءِ الثقيل.

استخدمَ "هيفسي" هذهِ المياهَ كمتتبِّعٍ غيرِ مشع. قامَ بقياسِ المدةِ التي يستغرقُها الماءُ لمغادرةِ جسمِ الإنسانِ بعدَ شربِه، ومقدارِ تخفيفِه بالماءِ الموجودِ بالفعلِ في الجسم. وجدَ أنَّ متوسطَ الوقتِ الذي يقضيه جُزيءُ الماءِ في جسمِ الإنسانِ هوَ ثلاثةَ عشَرَ يومًا. نشرَ هذهِ النتائجَ باللغةِ الألمانيةِ في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وأربعةٍ وثلاثينَ تحتَ عنوانِ "وقتِ بقاءِ الماءِ في جسمِ الإنسان". 

وصلَ هتلر إلى السلطةِ في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثلاثةٍ وثلاثينَ، ولمْ يكنْ هيفسي يرغبُ في العيشِ في ألمانيا التي كانتْ تحتَ حكمِ هتلر، وعادَ إلى معهدِ نيلز بور في كوبنهاغن عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وأربعةٍ وثلاثين.

وهناكَ؛ بدأَ أبحاثَه على عنصرٍ مهمٍّ للغاية.. الفوسفور. يؤدي الفوسفورُ دورًا مهمًّا في العديدِ منْ عملياتِ التمثيلِ الغذائي. نشرَ هيفسي والعديدُ منْ زملائِه عددًا منَ الأوراقِ بينَ عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وخمسةٍ وثلاثينَ وعامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وتسعةٍ وثلاثينَ يصفونَ النتائجَ التي توصلُوا إليها باستخدامِ الفسفورِ كمتتبعٍ بيولوجي.

وتوصلَ إلى اكتشافٍ مفاجئٍ وهوَ أنَّ معظمَ الفوسفورِ المبتلَعِ ينتهي في الهيكلِ العظمي، إذا لمْ يُفرَزْ، ليحلَّ محلَّ "الفوسفورِ القديمِ" هناك. يتركُ "الفوسفورُ القديمُ" الهيكلَ العظميَّ إما ليحلَّ محلَّ الفوسفورِ في الأعضاءِ الأخرى أوْ ليخرجَ خارجَ الجسم. 

وفي عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وأربعين؛ احتلَّ النازيونَ الدنمارك. كانَ عالِمُ الفيزياءِ الحائزُ جائزةَ نوبل عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وأربعةَ عشَرَ "ماكس فون لاوي" عدوًّا ألمانيًّا قويًّا للنازيين. كما كانَ الفائزُ بنوبل الفيزياءِ لعامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وخمسةٍ وعشرينَ "جيمس فرانك" معارضًا ألمانيًّا يهوديًّا قويًّا.

في بدايةِ الحربِ؛ قدمَ "لاوي" و"فرانك" ميدالياتِ جائزةِ نوبل الذهبيةَ إلى نيلز بور في كوبنهاغن. احتفظَ بها "بور" على سبيلِ الأمانة. ولمنعِ النازيينَ منْ أخذِهم، قامَ "هيفسي" بإذابةِ تلكَ الميدالياتِ في حمضٍ قويٍّ وخزنَ ناتجَ الإذابةِ في جِرارٍ في مختبرِه.

في أكتوبر عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثلاثةٍ وأربعينَ، علمَ نيلز بور أنَّه سيُلقَى القبضُ عليهِ فهربَ إلى بريطانيا عبرَ السويد. قررَ "هيفسي" الهروبَ أيضًا، وتمكنَ منَ الوصولِ إلى العاصمةِ السويديةِ ستوكهولم، حيثُ أصبحَ أستاذًا في الكليةِ الجامعيةِ بالمدينة.

عندما انتهتِ الحرب، عادَ هيفسي إلى كوبنهاغن ليجدَ الجِرارَ كما هي. استعادَ الذهبَ منَ الحمضِ وأعادَه إلى مؤسسةِ نوبل لصياغةِ الميدالياتِ وتقديمِها مرةً أخرى إلى "لاوي" و"فرانك".

وعندما انتهتِ الحربُ العالميةُ الثانية، بقيَ هيفسي في ستوكهولم. في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وواحدٍ وخمسينَ، أصبحَ مواطنًا سويديًّا، وتقاعَدَ عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وواحدٍ وستينَ عنْ عمرٍ يُناهزُ ستةً وسبعينَ عامًا.

وتوفيَ "هيفسي" عنْ عمرٍ يناهزُ ثمانينَ عامًا في الخامسِ منْ يوليو عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وستةٍ وستينَ في المركزِ الطبيِّ بجامعةِ فرايبورغ بعدَ إصابتِه بسرطانِ الرئةِ لعدةِ سنوات.

doi:10.1038/nmiddleeast.2023.288