مقالات

مستقبل فاشيات جدري القرود

نشرت بتاريخ 28 ديسمبر 2022

مع تناقص عدد حالات الإصابة بجدري القرود في الولايات المتحدة وأوروبا، تتناول دورية Nature السيناريوهات المحتملة التي قد تؤول إليها فاشيات هذا المرض.

سارا ريردون

في التاسع والعشرين من إبريل عام 2022، ظهر طفح جلدي غريب على شخص في نيجيريا، ثم انتقلت عدوى مرض جدري القرود التي حملها الطفح مع ذلك الشخص إلى المملكة المتحدة. ومنذ ذلك الحين، انتقل الفيروس المسبب للمرض إلى أكثر من 70 ألف شخص، في أكثر 100 دولة. وهو ما فاجأ المتخصصين في مجال الرعاية الصحية حول العالم؛ لأن نمط فاشيات المرض المتواصل الذي يسببه هذا الفيروس الذي تؤويه حيوانات في إفريقيا، يختلف عن نمط فاشيات جدري القرود التي اندلعت سابقًا بصورة متفرقة بين البشر.

غير أنه بعد ستة أشهر من بدء انتشار الفيروس، يبدو أن جهود التطعيم، والتغيرات التي طرأت على سلوك المصابين به، بدأت تؤتي ثمارها على صعيد كبح انتشار السلالة الأحدث منه، على الأقل في الولايات المتحدة وأوروبا (انظر الشكل: عدد حالات الإصابة بجدري القرود). غير أن بعض الباحثين يرى أن سيناريو فاشيات المرض يمكن أن يسلك منعطفات عدة. ففي السيناريو الأكثر تفاؤلًا، يمكن أن يَضعف تفشي المرض، على امتداد عدة شهور أو سنوات قادمة. وعلى أسوأ الفروض، يمكن أن يستوطن الفيروس بقاعًا خارج إفريقيا، من خلال بلوغ مستودعات حيوانية جديدة. وهو ما قد يجعل القضاء على جذوة هذه الفاشيات مستحيلًا. وهو ما توضحه جيسيكا جاستمان، وهي طبيبة متخصصة في الأمراض المعدية، من جامعة كولومبيا، في مدينة نيويورك بقولها: "ثمة الكثير جدًا من العناصر المتضاربة المؤثرة في المسألة".

Source: WHO


ولا تتوقع الجهات المعنية بمواجهة هذا المرض أن تخلق موجات انتشاره التي اندلعت عام 2022، نوعًا من الارتباك على مستوى العالم، كما شهدنا في حال «كوفيد-19» COVID-19. إذ لا يبدو أن الفيروس المسبب لجدري القرود، ينتقل عن طريق الهواء مثل ذلك المسبب لمرض «كوفيد-19». كما أنه لا ينتقل بسرعة كبيرة مثل الجدري العادي، ولا يصمد داخل الجسم فترات طويلة مثل فيروس نقص المناعة البشرية. وهو ينتشر، في أغلب الحالات، عن طريق الاتصال الجنسي. وقد رُصد بالدرجة الأولى بين المثليين من الرجال، وبالأخص بين من يجامعون عدة رجال، أو يقيمون علاقات جنسية عابرة. ورغم أنه يسبب طفحًا جلديًا شديدًا ومؤلمًا، فنادرًا ما يكون مميتًا. فالفيروس المسبب لموجة الفاشيات الأحدث من هذا المرض، ينحدر من الفرع الحيوي 2 لفيروسات جدري القرود في غرب إفريقيا (يتفشى في إفريقيا الوسطى فيروس أشد فتكًا، ينتمي للفرع الحيوي 1). وليس واضحًا ما إذا ما كان هذا الفرع الحيوي الأحدث يتمتع بقدرة فطرية أكبر على الانتشار من أسلافه. والأرجح أنه أحد صور الفيروس، التي استطاعت الوصول إلى مجموعات بشرية، عززت بسلوكياتها سرعة انتشار فاشيات المرض، بحسب ما أفاد به إليوت ليفكوويتس، المتخصص في المعلوماتية البيولوجية، من جامعة ألاباما، في مدينة برمنجهام الأمريكية.

تعقيبًا على ذلك، يقول جيراردو تشويل-بوينتا، المتخصص في الوبائيات، من جامعة ولاية جورجيا، في مدينة أتلانتا الأمريكية: أعتقد أننا في موقف جيد يسمح لنا بالسيطرة على الوباء، لكن هذا سيعتمد، في الغالب، على سلوك التجمعات البشرية".

من الصعب التنبؤ بالاتجاهات التي سيسلكها الوباء مستقبلًا في ضوء أن كثيرًا من الغموض لا يزال يحيط بهذه السلالة الأحدث من فيروس جدري القرود، وبالنظر إلى أن الكثير رهن باستجابتنا لهذه الفاشيات. على أن الباحثين وضعوا تصورات لعدة سيناريوهات محتملة، للمساعدة في وضع خطط لمواجهة المسارات المختلفة التي قد يسلكها الوباء. ونستعرض فيما يلي بعض الأسئلة بالغة الأهمية فيما يتعلق بمستقبل فاشيات جدري القرود.

إلى أين تتجه بنا هذه الفاشيات حاليًا؟

في الولايات المتحدة وأوروبا، يشهد عدد الحالات التي تأكدت إصابتها بجدري القرود، تناقصًا ملحوظًا منذ منتصف أغسطس عام 2022.

ويعزو خبراء الصحة العامة الفضل في ذلك إلى تغيرات سلوكية؛ ففي دراسة1 أجرتها هيئة مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC) بالولايات المتحدة، وشملت فحوصًا استقصائية لرجال مثليين، تبين أن نصف أولئك الرجال تقريبًا، قللوا من نشاطهم الجنسي على ضوء المخاوف من انتشار الفيروس. كذلك يرجح أن حملات الصحة العامة لعبت بدورها دورًا مفيدًا، من خلال استهداف توعية الأفراد بالأعراض التي يتعين عليهم التنبُه إليها، وتشجيعهم على الإبلاغ عن حالات الإصابة بالفيروس، إلى جانب تطعيم الأشخاص المعرضين بدرجة كبيرة لخطر الإصابة به (رغم أنه إلى وقت كتابة هذا المقال لم يتضح مدى فاعلية اللقاحات في تقليل الإصابة بالفيروس، أو منع انتشاره).

مع ذلك، فإن أعداد حالات الإصابة بجدري القرود في الفاشيات التي اندلعت مؤخرًا من هذا المرض تدق ناقوس الخطر، بحسب تعبير جاستمان. فالكثيرون، أو أطباؤهم، قد يعجزون عن تبيُن أعراض هذا المرض، أو ربما يترددون في الإبلاغ عن إصابتهم به، خشية إلحاق وصمة بهم. وتضيف جاستمان: "لا أعتقد أن اختبارات الكشف عن المرض شملت جميع من كانوا بحاجة إلى أن يخضعوا لها".

وتشهد بعض الدول في أمريكا الجنوبية، وإفريقيا، اتجاهًا مغايرًا. على سبيل المثال، في أكتوبر الماضي، قال ديمي أوجوينا، من جامعة دلتا النيجر، في جزيرة ولبرفورس بنيجيريا في تصريح له عن المرض: "من السابق جدًا لأوانه الجزم بأننا نجحنا في هزيمة الفيروس". إذ يتواصل ارتفاع عدد الإصابات بالمرض، في البقاع التي يُحتمل أن يكون اندلاعه قد بدأ منها في هذا البلد، ليسجل معدلًا أسبوعيًا بلغ 56 حالة مؤكدة في سبتمبر من عام 2022. وقد أفاد المركز النيجيري لمكافحة المرض في أبوجا بأن البلد شهد أكثر من 400 حالة إصابة بالفيروس. ورغم أن هذا العدد صغير، مقارنة بنظيره في الولايات المتحدة، حيث بلغ عدد هذه الحالات 26 ألف حالة، يمكن إلى حد كبير الجزم بأنه أقل كثيرًا منه في الواقع. إذ يرجح أن عدد الحالات الأخرى التي أُغفل رصدها في نيجيريا، يفوق كثيرًا نظيره في الولايات المتحدة، على حد ما أدلى به أوجوينا، بالنظر إلى أن نيجيريا لا تدير برنامجا صارمًا لمراقبة انتشار المرض، ويتوقع أوجوينا احتمالية ألا يفطن كثير من المصابين بالفيروس، لأعراض المرض أو يقدِمون على زيارة الطبيب. وتؤيده في الرأي روزاموند لويس، المديرة الفنية لبرنامج متابعة مرض جدري القرود، بمنظمة الصحة العالمية (WHO)، في جنيف بسويسرا. إذ ترى أن عدد الحالات التي يجري الإبلاغ عن إصابتها بالمرض سيظل دائما أقل منه في الواقع، لا سيما في المناطق التي لا تُدار فيها برامج صارمة ومحكمة لرصد الإصابات.

وتأمل منظمة الصحة العالمية في الحصول على المستلزمات الطبية المطلوبة لفحص 60 ألفا من الأشخاص، بهدف شحنها إلى إفريقيا، لكنها تواجه تحديات لوجستية في هذا الإطار، تتصل بصعوبة حث الأفراد على الخضوع للاختبارات اللازمة للكشف عن المرض، وتشخيص إصابتهم به. وفي هذا السياق، تقول لويس بأنه ليس من الواضح أيضًا، ما إذا كان الارتفاع الجلي في عدد حالات الإصابة بجدري القرود في إفريقيا ينبئ بفاشية حقيقة، أم أنه نتاج تكثيف الفحوص الدقيقة للكشف عن المرض. وإجابة عن هذا التساؤل، تفيد بأنها تعتقد أن كلا العاملين يسهمان في رفع أعداد حالات الإصابة المرض.

ما الذي تنبئ به نماذج انتشار المرض؟

نظرًا لأننا لا نعرف إلا القليل جدًا عن الآلية التي ينتشر بها جدري القرود، وعن تأثير العوامل المختلفة في انتشاره، فإن نمذجة انتشار هذا المرض لتوقع فاشياته قبل اندلاعها بمدة لا تزيد على بضعة أسابيع قليلة، يُستبعد أن يعود علينا بنتائج دقيقة. ولا تنشر منظمة الصحة العالمية توقعات طويلة الأمد لاتجاهات انتشار المرض. ورغم أن هيئة المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها تنشر شهريًا تقرير جهات متخصصة عن فاشيات المرض، مصحوبًا بمجموعة من السيناريوهات المحتملة لاتجاهات تفشيه، إلا أنها تصرح بأن موثوقية تنبؤاتها، بحسب تقييمها، متوسطة الدرجة. وقد أفاد آخر تقارير الهيئة، الذي صدر يوم التاسع والعشرين من سبتمبر العام الماضي، أنه من المحتمل أن يتوقف عدد الحالات في الولايات المتحدة عن الارتفاع، أو ينخفض، في الشهر التالي لصدور التقرير، وإن كان ارتفاع أعدادها سريعًا يبقى محتملًا. (انظر go.nature.com/3sxrbmv).

كذلك ينشر تشويل-بوينتا على الإنترنت، أسبوعيًا، توقعاته لاتجاهات انتشار جدري القرود. كما يتتبع هذه الاتجاهات في الولايات المتحدة، وعدد من دول أوربا. ويعتمد تشويل-بوينتا على عدة سيناريوهات، للخروج بتوقعات تغطي ثلاثة أسابيع تالية. وقد نجحت نماذجه، حتى الآن، في توقع الاتجاهات الفعلية لهذا الانتشار بقدر لا بأس به من الدقة. فتنبأت نشرة أصدرها يوم الثالث من أكتوبر العام الماضي. بأن عدد الإصابات قد يتوقف عن التزايد، أو يتناقص، في الدول التي شملها نموذجه. ويرى تشويل-بوينتا أنه رغم أنه من المحتمل أن تحيد اتجاهات فاشيات المرض عن توقعاته حال فرض سياسات جديدة للصحة العامة، أو انطلاق تغيرات سلوكية مجتمعية، أو حدوث طفرة بالفيروس، فمن المستبعد أن تتغير هذه الاتجاهات سريعًا. وقبل أكتوبر من العام الماضي، لم تشمل نماذج انتشار المرض التي وضعها تشويل-بوينتا المسارات المحتملة له في إفريقيا، غير أن تشويل-بوينتا صرح آنذاك أن نماذجه قد تتضمن هذه السيناريوهات مستقبلًا.

بعض النماذج الأخرى لانتشار المرض تضم المزيد من التفاصيل، رغم أنها قد لا تكون بالضرورة أكثر دقة. على سبيل المثال، أحد الأنظمة التابعة لمؤسسة «آر تي آي» الدولية RTI International (وهي مؤسسة بحثية دولية، غير هادفة للربح، تقع إدارتها في حديقة مثلث البحوث، بولاية نورث كارولينا الأمريكية)، استخدم معلومات مستقاة من نوبات التفشي السابقة لفيروس جدري القرود، وبالأخص فاشيات الفيروس المنتمي إلى الفرع الحيوي 2، بهدف وضع تصوُر للمسارات التي سلكها انتشار السلالة الأحدث منه. وقد شملت نوبات الفاشيات الأبرز للسلالة المنحدرة من الفرع الحيوي 2، موجة تفش قصيرَة الأمد في الولايات المتحدة، اندلعت عام 2003، وأصاب خلالها الفيروس أكثر من 70 شخصًا، فضلًا عن فاشية أخرى رُصِدت في نيجيريا عام 2017، وأدت إلى الاشتباه في 146 حالة إصابة بالمرض. وتشير عمليات تحليل جينومات الفيروس المسبب لهذه الفاشيات، إلى أن تلك السلالة تقف وراء موجات الانتشار التي دبت مؤخرًا.

وبناءً على معلومات مستقاة من تلك الفاشيات، وبافتراض أن الفيروس لم تطرأ عليه طفرات ملحوظة، عمد دونال بيزانسيو، المتخصص في الوبائيات من مؤسسة «آر تي آي الدولية» في نونتنجهام، بالمملكة المتحدة، إلى تقييم قدرة الفيروس على الانتشار. فأجرى مع فريقه البحثي نمذجة للآلية التي يمكن أن ينتشر بها الفيروس في غضون أسابيع، في دولة افتراضية مرتفعة الدخل، تحتضن 50 مليون نسمة. وحتى أكتوبر من العام الماضي، وفقًا لتنبؤات المسودة البحثية لهذا العمل البحثي، توقع النموذج أنه حال عدم تبني هذه الدولة الافتراضية أية تدابير لمجابهة الفيروس، فمن الممكن أن يصاب ستة آلاف شخص (أي 0.01% من السكان) بالفيروس، قبل أن يأخذ انتشاره في الانحسار. ويُعزى ذلك، إلى حد بعيد، إلى أن الفيروس لا يتمتع بقدرة عالية على الانتشار، فضلًا عن أن النموذج تبنى فرضية مفادها أن أغلب كبار السن تلقوا تطعيمًا ضد فيروس الجدري، والفيروسات القريبة تطوريًا منه (كما هو الحال في دول مثل الولايات المتحدة).

بالإضافة إلى ذلك، أظهر نموذج الفريق البحثي أن عدد الإصابات بفيروس جدري القرود قد ينخفض انخفاضًا شديدًا، إذا عزل المصابون بعدواه أنفسهم لمدة ثلاثة أسابيع (حتى انتهاء الفترة المحتملة لحضانته)، وحال إقلال الرجال المثليين لنشاطهم الجنسي إلى حين انتهاء فاشيات المرض. كذلك يمكن أن تسفر تطعيمات مخالطي المصابين بالمرض عن خفض عدد حالات الإصابة به.

هل يمكن أن تؤدي التطعيمات إلى القضاء على هذه الفاشيات؟

وُزعت مئات الآلاف من جرعات اللقاحات المضادة للجدري، في أوروبا والولايات المتحدة، للمساعدة في تطعيم الأـشخاص الأكثر عرضة للإصابة بهذا المرض، مثل الرجال المثليين، ومخالطي حاملي الفيروس. غير أن تطعيم الجميع لم يكن خيارًا مطروحًا. فالولايات المتحدة، على سبيل المثال، توقعت ألا يتوفر من اللقاح الأكثر استخدامًا في هذا السياق، وهو لقاح الجدري العادي، الذي بدأ تغيير استعماله لتوظيفه كلقاح مضاد لجدري القرود، سوى مليوني جرعة.

بيد أن المدى المتوقع لإسهام هذه التطعيمات في إبطاء انتشار المرض لا يزال غير واضح. على سبيل المثال، تشير مسودة بحثية لإحدى الدراسات2 إلى أن إعطاء اللقاحات المضادة للجدري لأشخاص لم يسبق تطعيمهم ضده على الإطلاق، لا يعزز بشكل ملموس مستويات الأجسام المضادة التي تستطيع تحييد فيروس جدري القرود، وتُعد أحد مكونات الاستجابة المناعية. في المقابل، نشرت هيئة المراكز الأمريكية مكافحة الأمراض والوقاية منها بيانات أولية عن معدل الإصابة بفيروس جدري القرود، صدرت عن عدد من الولايات القضائية الأمريكية، وأشارت إلى أن نسبة الإصابة بهذا المُمْرِض بين من يوصى بتلقيهم تطعيمات ضده كانت بين من لم يتلقوا هذه التطعيمات عشرة أمثال نظيرتها بين من تلقوها (انظر go.nature.com/3yifurf). (غير أن هذه البيانات لم تعالَج إحصائيًا باحتساب تأثير أعمار الأشخاص، أو الأمراض الكامنة الأخرى لديهم، أو سلوكياتهم، أو غير ذلك من الاختلافات بين المجموعتين). وتُجرى حاليًا تجارب إكلينيكية عديدة، لاختبار فاعلية لقاحات الجدري في هذا السياق.

وليس من الواضح أيضًا كم يمكن أن يستمر مفعول هذه التطعيمات. ففي مسودة بحثية، يفيد الباحث أوجوينا باكتشاف حالة لشخص لم يسبق له تلقي أي تطعيم ضد جدري القرود، وتجددت إصابته بعدوى هذا المرض بعد 9 شهور، وهو ما يدل على أن المناعة المكتسبة جراء الإصابة بالمرض ربما تتناقص بمعدل أسرع مما توقعه العلماء سابقًا.

 غير أن بعض المتخصصين لا يتوقع أن تكون التطعيمات عديمة الجدوى تمامًا. على سبيل المثال، يوضح ليفكوويتس أن اللقاح المضاد لمرض الجدري اختُرع واستمر استخدامه حتى استئصال شوكة هذا المرض لمدة 180 عامًا تقريبًا، لكن على مدى تلك الفترة لم يكتسب الفيروس المسبب لهذا المرض – وهو قريب تطوريًا من فيروس جدري القرود – قدرةً على مقاومة التطعيمات. ورغم أنه لا توجد علاجات معتمدة حاليًا ضد جدري القرود، ثمة تجارب تجرى حاليًا، لاختبار فاعلية عدد قليل من العقاقير المضادة لفيروس الجدري في مواجهة جدري القرود.

ما الذي قد يتسبب في زيادة عدد الإصابات؟

المؤشرات الحديثة لاتجاهات انتشار المرض في الولايات المتحدة وأوروبا، تبدو باعثة على التفاؤل، لكن جاستمان ترى أنه حال شعور الأفراد بزوال الخطر، فإن ذلك سيؤدي إلى ازدياد السلوكيات التي تعزز خطر الإصابة بالمرض؛ وهو ما قد يفضي إلى عودة انتشار الفيروس. وما يقلق جاستمان بالأخص هنا هو قدرة الفيروس على الانتشار في المقار الجامعية، حيث يقيم الطلاب عادةً في مساكن متقاربة، وربما يمارسون أنشطة رياضية تستلزم مخالطة بدنية مطولة. وهو ما تلفت إليه جستمان بقولها: "لا أعتقد أن الوضع سيبقى على حاله. سوف يتطور، ولسوف تتطور توجيهاتنا كذلك للتصدي له".

في الوقت نفسه، يتخوف أوجوينا في نيجيريا من إمكانية انتشار الفيروس سريعًا بين المصابين بالإيدز، الذين يبلغ عددهم داخل نيجيريا وحدها حوالي مليوني شخص. إذ تورد التقارير الخاصة بفاشيات جدري القرود في نيجيريا لعام 2017، بضعة شواهد قليلة على أن الفيروس المسبب لهذا المرض يغدو أكثر فتكًا في العديد من حالات الإصابة بالإيدز، بالنظر إلى قصور الجهاز المناعي الذي تواجهه الكثير من هذه الحالات.

ماذا لو طرأت طفرات على الفيروس؟

بعكس الفيروسات التي تتكون مادتها الوراثية من الحمض النووي الريبي، مثل «سارس-كوف-2» SARS-Cov-2 أو فيروس نقص المناعة البشرية، يتكون جينوم فيروس جدري القرود من الحمض النووي، الذي يكون أقل عرضة لنشأة الطفرات به من الحمض النووي الريبي، بالنظر إلى أنه يتمتع بتركيب بنيوي أكثر ثباتًا واستقرارًا. بيد أن الباحثين فوجئوا بنتائج دراسة3 نشرت في دورية «نيتشر ميديسين» Nature Medicine، في يونيو من عام 2022، أفادت بأن الفيروس خلال انتشاره في أوروبا قد اكتسب طفرات في حرف واحد من جينومه، وبوتيرة أسرع مما حدث مع فيروسات الجدري السابقة. غير أنه يبدو أن هذه الطفرات كان تأثيرها طفيفًا. ويرجح أنها تؤشر على مواضع الحمض النووي للفيروس التي استهدفتها الإنزيمات البشرية، واقتطعت أجزاءً منها، بهدف وقف نشاط هذا المُمْرِض. كذلك وجد باحثو الدراسة في بعض جينومات فيروس جدري القرود، مناطق طرأت عليها طفرات حذف أو إبدال، وهي طفرات شائعة الحدوث في فيروسات الجدري، لكن لم تُعزى إليها حتى الآن أي تغيرات في آلية عمل الفيروس.

وبحسب ليفكوويتس وعلماء آخرين، يصعب تقييم مدى احتمالية تنامي قدرة الفيروس على الانتشار مستقبلًا، وإن كانت تبقى احتمالية غير مستبعدة. فقد خَلُصت دراسة (لم تخضع لمراجعة أقران بعد) تناولت طفرات الحمض النووي التي قد تتولد عن نشاط إنزيم بشري في فيروس جدري القرود، إلى أن السلالة الأحدث من هذا الفيروس ربما تكون قد انتقلت إلى البشر أول مرة، في عام 2016، قبل اكتشاف فاشيات الفيروس في نيجيريا عام 2017 (انظر go.nature.com/3stezeu). وحتى أكتوبر من العام الماضي، ظل الباحثون غير قادرين على الجزم بما إذا كان الفيروس قد واصل انتشاره منذ ذلك الوقت بين البشر دون أن يُكتشَف، أم أنه عاد إلى الحيوانات لبضع سنوات، قبل أن يعود إلى البشر مرة أخرى في توقيت أحدث، ربما بسبب طفرة محددة ساعدته على ذلك. وهو ما يوضحه ليفكوويتس قائلًا: "لا توجد طفرة بعينها في الصورة الحالية من الفيروس يمكن الجزم بأنها ما أدى إلى انتقاله إلى البشر"، من ناحية أنها تُفاقِم شدة العدوى بين البشر مثلًا، أو تجعل الفيروس أقدر على الانتشار بينهم.

وهو ما يشير إليه ليفكوويتس بقوله: "إن معرفتنا بآليات انتشار الفيروس ليست أفضل من معرفتنا بطبيعته". ويضيف أنه في الوقت نفسه، تزداد فرص نشوء الطفرات الباعثة على الخوف كلما طال أمد موجات انتشار المرض.

ماذا لو وجد الفيروس عائلًا جديدًا له؟

ما زال الباحثون يجهلون أي الحيوانات في إفريقيا يخدم كأهم المستودعات الحاملة لفيروس جدري القرود، والتي تسمح بانتقاله إلى البشر. إذ تعد القوارض، على سبيل المثال، مشتبهًا به في هذا السياق. فمثلًا، فاشيات المرض التي شهدتها الولايات المتحدة عام 2003، اندلعت عندما تسببت قوارض مستوردة من غانا، في نقل العدوى إلى كلاب البراري. غير أن الفيروس عُثر عليه أيضا في عدد من الحيوانات الأخرى، بما فيها القرود، وحيوانات آكل النمل.

وفي أغسطس من عام 2022، عثر الباحثون في فرنسا أيضًا على كلب مصاب بالفيروس، بعد انتقاله له من أصحابه، رغم أنه لم يتضح ما إذا كان بمقدور الكلاب أن تعيد الفيروس إلى البشر مرة أخرى. من هنا، حدَّثت هيئة المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها بالولايات المتحدة توجيهاتها، لحث المصابين بجدري القرود على تجنب مخالطة الحيوانات. غير أن تشويل-بوينتا يعتقد أنه من المستبعد أن تؤوي حيوانات خارج إفريقيا الفيروس على الدوام، لأن هذا المُمْرِض يحتاج إلى وقت حتى يتأقلم مع أي نوع جديد ينتقل إليه وينتشر منه. ويبدو أن السلالة الحالية لفيروس جدري القرود تفضل البشر.

ما الحل لاستئصال جدري القرود تمامًا؟

في المناطق التي ينتقل فيها الفيروس من حيوان لإنسان، يُتوقع أن يستحيل استئصال شأفة الفيروس تمامًا، دون تطعيم الأشخاص، (والحيوانات أيضًا في نهاية المطاف). ورغم احتمال انتشار الفيروس خارج إفريقيا مرة أخرى، لم تتلق الدول الإفريقية بعد أي كميات من اللقاحات المضادة له، بحسب ما يفيد أوجوينا. ويرجع ذلك إلى أن الدول الغنية، لم تتبرع حتى الآن، بأي عدد من جرعات هذه اللقاحات للدول التي لا تستطيع تحمل أثمانها.

من هنا، تقول أديسولا يِنكا-أوجونلاي، وهي متخصصة في الوبائيات، تقيم في لندن، وتعمل في مركز نيجيريا لمكافحة الأمراض، إنه حتى إذا توفرت اللقاحات، ستبقى هناك حاجة إلى تغيير السلوكيات البشرية، لتقليل عدد حالات الإصابة بجدري القرود، لا سيما في ظل وجود أسئلة عالقة فيما يتعلق بفاعلية اللقاحات. وتضيف: "إذا لم نكبح انتشار جدري القرود في مناطق استيطانه حاليًا، لن ننجح في احتواء انتشاره، مهما بذلنا من جهود في الدول التي لا ينتشر فيها حاليًا المرض".

 

doi:10.1038/nmiddleeast.2023.217