أحدث الأبحاث

هكذا قاد الحمض النووي سريع التطفُر رحلة تطور الدماغ البشري

نشرت بتاريخ 1 يوليو 2023

رصد باحثون مناطق الجينوم البشري، التي طرأت عليها تطورات متسارعة بعد تشعُب البشر تطوريًا عن قردة الشمبانزي. وتحتوي تلك المناطق على عناصر جينومية لا نجدها إلا عند البشر، وترتبط بالتطوُر العصبي البشري، وأمراض تصيب الإنسان.

يوكاريست كون، فاجيش إم. ناراسيمهان

هل يمكننا معرفة الاختلافات الجينية بين البشر والشمبانزي؟ اختلاف ضئيل بينهما، يرتبط بتَسَلْسُلات الحمض النووي التي تُعني بتشفير البروتينات، قاد العلماء إلى الاعتقاد بأن التغيّرات الجينومية، المسؤولة عن الصفات التي ينفرد بها البشر، توجد بشكل أساسي في مناطق جينومية لا تشفّر بروتينات. وفي دراسة نُشرت مؤخرًا في دورية «سيل» Cell، يُبيِّن رايلي مانجان وفريقه البحثي2 أن المنطقة التي شهدت تطورات أسرع من غيرها بين هذه المناطق الجينومية غير المشفِّرة، ترتبط برحلة التطور العصبي المميِّزة للإنسان، وبأمراض تصيبه. ويطرح هذا العمل البحثي رؤى مُعمّقة بشأن الكيفية التي اختلفنا بفضلها عن أسلافنا من القردة العليا.

حتى وقتنا الحاليّ، ركّزت معظم الدراسات التي تناولت تطوّر البشر تحديدًا، على فحص واحدٍ فقط من أحد نوعين من مناطق الحمض النووي، وهما مناطق الحمض النووي المُشَفِّرة، والمناطق غير المُشَفِّرة. وقد اتَّسمت المناطق غير المُشفِّرة بمستوى عالٍ من الثبات على امتداد التاريخ التطوري، في جميع أنواع الفقاريات، وإن تميزت في الوقت نفسه بارتفاع معدل الطفرات بها عند البشر، مقارنة بالحال في الأنواع الأخرى3. ويُعتقَد أن هذه التسَلْسُلات الجينية، التي يُطلق عليها مناطق التطفُر المُعجل البشراناوية (نسبة إلى سلالة البشراناويات، وهي سلالة يشار إليها بالاختصار HARs، وتشمل جنسين فقط هما البشر والشمبانزيات وأسلاف الشمبانزي المنقرضة) تشكلها بالدرجة الأولى عناصرَ منظمة للتعبير الجيني، توجد بالأساس في الحمض النووي، وأنها قد تطوَّرت عند البشر بصورة أسرع من الفقاريات الأخرى5،4. غير أن المناطق التي احتفظت بدرجة كبيرة بتسلسلها على مدى التاريخ التطوري، لا تشكّل إلا 5% من إجمالي الجينوم البشري4.

وقد قرَّر مانجان وفريقه البحثي، تناوُل المسألة بالدراسة من منظور أوسع، ففحصوا جميع أرجاء الجينوم، الذي يتكوَّن إلى حد بعيد، من مناطق تسلسل جينومي متغيرة على مدى التاريخ التطوري، ليتوصلوا من خلال ذلك إلى تعيين التسَلْسُلات الجينية التي شهدت تطورات انفرد بها البشر. بعد ذلك، وضع الفريق البحثي تصنيفًا لجميع تَسَلسُلات جينومات القردة العليا والبشر، ثم تناولوها بالتحليل حاسوبيًا، ليتمكّنوا في نهاية المطاف من استخلاص الجينوم الذي يعود لآخر سلف مشترك بين البشر والشمبانزي. وبمقارنة جينوم الإنسان الحديث مع جينوم هذا السلف المشترك الأخير، استطاع الفريق البحثي الوقوف على تسلسلات جينية تميزت بخطى تطورية سريعة، وأطلقوا على تلك التسلسلات: مناطق التطفُر المُعجل بجينوم أسلاف الإنسان (HAQERs).

وعيَّن الباحثون 1581 منطقة بهذه التسلسلات، ووجدوا أنها قد تعرَّضت لطفرات مكثفة في البشر، مقارنة بالأنواع الأخرى. واكتشف الفريق البحثي أيضًا أن هذه التسلسلات قد اختبرت عددًا من التغيرات الجينية، تزيد على التغيرات التي طرأت على تسلسلات مناطق التطفُر المُعجل البشراناوية في الفترة الزمنية نفسها، وهو ما يعني أن تسلسلات مناطق التطفُر المُعجل بجينوم أسلاف الإنسان كانت الأسرع تطفرًا في الجينوم البشري. وإضافة إلى ذلك، رصد الفريق البحثي ستة أماكن فحسب، حدث فيها نوع من التداخل بين تركيب تسلسلات مناطق التطفُر المعجل بجينوم أسلاف الإنسان و2733 من تسلسلات مناطق التطفُر المُعجل البشراناوية، التي أمكن للعلماء الوقوف عليها في السابق، وهو ما يشير إلى أن هذه المناطق الستة التي اكتشفتها الدراسة لم تكن معروفة من قبل.

هنا يصبح من المنطقي طرح السؤال التالي: ما الآليات التي تقف وراء ذلك التشعب التطوري السريع في حال تسلسلات مناطق التطفُر المعجل بجينوم أسلاف الإنسان؟ وجد مانجان وفريقه البحثي أن هذه المناطق دون غيرها من مناطق الجينوم، تنحصر فيها المعدلات الأعلى لحدوث الطفرات، ومزايا انتخابية أقوى تميل إلى نُسَخٍ جينية بعينها. ولاحظ الفريق البحثي كذلك وجود تشابه واضح بين تسلسلات مناطق التطفُر المُعجل بجينوم أسلاف الإنسان في أشباه البشر المختلفة (وهي: الإنسان الحديث، إنسان نياندرتال، إنسان دنيسوفا)، لكن هذه التسلسلات اختلفت في الوقت نفسه عن نظائرها الموجودة لدى قردة الشمبانزي. ويشير هذا الاكتشاف، إلى أن تسلسلات التطفُر المُعجل بجينوم أسلاف الإنسان قد مرَّت بعمليات انتخاب تطوري سريعة الخطى، في أعقاب تشعُب البشر تطوريًا عن قردة الشمبانزي، وانحصر حدوث هذه الآليات التطورية في أشباه البشر (أي أن هذه الآليات خضعت لقيود انتخابية صارمة) (شكل 1).

---------------------------------------------------------------



Enlarge image

شكل 1. تَسَلْسُلات حمض نووي شهدت معدلات تطفر سريعة ووُجدت لدى أسلاف البشر (تُعرَف، اختصارًا، بتسلسلات التطفُر المعجل في جينوم أسلاف الإنسان HAQERs). أجرى مانجان وفريقه البحثي2 مقارنةً بين جينومات القردة العليا، وجينومات أشباه البشر، وأحد التسَلْسُلات التي يُعتقَد أن مصدرها سلف مشترك بين البشر والشمبانزي. واستطاع الفريق البحثي، من خلال المقارنة، تحديد مناطق تُعرف باسم مناطق تسلسلات التطفُر المُعجل في جينوم أسلاف الإنسان، وهي مناطق طرأت عليها تطورات بخطى سريعة، قبل التشعُب التطوري الذي أدَّى إلى نشوء إنسان نياندرتال، والإنسان الحديث. وتتضمَّن تسلسلات التطفُر المُعجل في جينوم أسلاف الإنسان مناطق حديثةَ النشوء، تحفّز عملية التعبير عن جينات تلعب دورًا في تطور الجهاز العصبي للإنسان، والأمراض التي تصيبه (لا تظهر في الرسم).

--------------------------------------------------------------

وفي خطوة تالية، بَيَّنَ الفريق البحثي أن تسلسلات التطفُر المُعجل بجينوم أسلاف الإنسان، يشيع ظهورها في المناطق الجينومية التي تلعب دورًا في تنظيم عمليات التعبير الجيني، في منطقتين من الجسم بالتحديد، هما الدماغ والقناة الهضمية. وتتسق هذه الاكتشافات مع أدلة كان العلماء قد حصلوا عليها من السجل الأحفوري، تُبين أن ازدياد حجم الدماغ، وانكماش حجم الأمعاء، قد حدثَا بعد تشعُب البشر تطوريًا عن قردة الشمبانزي.

ومن المعروف كذلك أن تسلسلات المناطق المنظمة للتعبير الجيني في الحمض النووي، والتي تعرف باسم مناطق تعزيز النسخ الجيني، لا تُشَفِّر البروتينات، ولكنها، بدلًا من ذلك، ترفع معدلات التعبير عن جينات بعينها. ولذلك، اعتمد مانجان وفريقه البحثي على صورة معدَّلة من تقنية تعرف باسم «تعيين تسلسل مناطق النسخ الذاتي النشطة المنظمة للتعبير الجيني» (STARR-seq)، لقياس نشاط مناطق تعزيز النسخ الجيني، في تسلسلات التطفُر المعُجل بجينوم أسلاف الإنسان التي ارتبطت بتطوّر الدماغ البشري. ووجد الفريق البحثي أن مستوى نشاط مناطق تعزيز النسخ الجيني في هذه التسلسلات لدى أشباه البشر يفوق مستوى نشاط مناطق تعزيز النسخ الجيني الموجودة في التسلسلات المناظرة داخل جينوم الشمبانزي، كما يفوق نشاط مناطق تعزيز النسخ الجيني الموجودة في التسلسلات نفسها من جينوم السلف المشترك المفترض للإنسان والشمبانزي. وفي الواقع، لم يرصد الفريق البحثي نشاطًا بمناطق تعزيز النسخ الجيني في تسلسلات الحمض النووي لغير أشباه البشر. وهو ما يشير إلى أن تسلسلات التطفُر المعُجل بجينوم أسلاف الإنسان هي عناصر مُنظمة للتعبير الجيني، اكتسبت لأول مرة وظيفة في سلالة البشراناويات، بفعل التطفُر والانتخاب، وأنها لم تنشأ من عنصر منظم للتعبير الجيني وُجد سابقًا، مثلما كان الحال في تسلسلات التطفُر المعجل البشراناوية.

ومن المعروف أن عمليات التضاعف الجيني هي عمليات تطوُرية أساسية، ترتبط بظهور وظائف جينية جديدة6. وقد رصد مانجان وفريقه البحثي مجموعات من تسلسلات التطفُر المعجَّل بجينوم أسلاف الإنسان، تقع قرب نُسَخٍ مُضاعفة من جينين لا يوجدان إلا عند البشر، وهما الجين FOXD4، الذي يرتبط بتمايز الخلايا العصبية، وNBPF، الذي يرتبط بزيادة حجم الدماغ. ويرى الفريق البحثي أن سرعة التغيرات التي طرأت على تسلسلات التطفُر المعجَّل في جينوم أسلاف الإنسان، وما تبعها من عمليات تضاعف جيني، قد أدَّت إلى ارتفاع مستويات التعبير عن هذين الجينين. ويشير هنا الفريق البحثي إلى أن هذا المزيج الذي يجمع بين الابتكار في عمليات التنظيم الجيني وعمليات التضاعف الجيني التطورية، ربما يكون قد عزز تسارع تطوّر المناطق الجينومية التي ينفرد بها البشر.

ومن المعروف كذلك أن كثيرًا من الأمراض العصبية والنفسية، ومن بينها مرض الفصام، هي أمراض تصيب البشر وحدهم7. وقد وجد مانجان وفريقه البحثي أن النسخ المتباينة من تسلسلات التطفُر المعجل في جينوم الإنسان، ترتبط بمجموعة من الأمراض، منها مرض ارتفاع ضغط الدم، ونوع من سرطانات الأعصاب، يُعرَف بورم الأرومة العصبية، وكذلك مرض الاضطراب ثنائي القطب والفصام. ويعتقد الباحثون أن هذا الارتباط، يُعزَى بشكل أساسي إلى ارتفاع معدّل التطفُر في تسلسلات التطفُر المعجل في جينوم الإنسان. ويرون أنه رغم أن سرعة التطوّر هذه قد أثمرت عن مجموعة من الصفات النافعة للبشر، فإنها أدَّت، في الوقت نفسه، إلى جعل البشر عرضةً لأمراض لا تصيب غيرهم.

وبفضل الطرق المثيرة للاهتمام التي اتبعها مانجان وفريقه البحثي استطعنا أخيرًا إلقاء الضوء على مناطق الجينوم التي يمكننا دراستها، بغرض تحسين فهمنا لعملية تشعُب البشر تطوريًا عن أقرب أقاربنا من القردة العليا. وإذا تواصلت الدراسات في هذا الاتجاه، فمن المُحتمل أن نكتشف أن تلك المناطق التي وقف عليها الباحثون في دراستهم هي مناطق وثيقة الصلة بوظائف بشرية خالصة، أو يمكننا التوصل كذك إلى أن هذه المناطق يمكن استهدافها بالعقاقير التي تعالج أمراضًا يُعرَف أنها تصيب البشر دون غيرهم.

ويأتي هذا العمل البحثي في وقته تمامًا، إذ تجري في الوقت الحاليّ بحوث، تهدف إلى الوقوف بدقة على التسلسلات الجينومية الكاملة للفقاريات، من خلال جهود منظمة، مثل المشروع المعروف باسم «مشروع جينوم الفقاريات» Vertebrate Genome Project 8. ويمكننا تطبيق الطرق التي اعتمد عليها الباحثون في الدراسة الحالية، على طيف عريض من الأنواع، لتحديد المناطق الأخرى في الجينوم، التي تتصف بسرعة معدل التطوّر، وتمهيد الطريق أمام أنواع جديدة من الاختبارات الجينومية المقارَنة. وإضافة إلى ذلك، من شأن التقدّم الذي نشهده حاليًا في علوم الجينوم، أن يتيح التوسع في الدراسات التي تتناول التسلسلات نفسها التي شهدت تطفُرًا معجلًا في جينوم أسلاف الإنسان، وصولًا إلى المناطق التي كان من الصعب وضع تسلسل جينومي لها من قبل، مثل المناطق ذات التكرارات المتعددة، وربما أيضًا المناطق الجينومية المحيطة بالتسلسلات التي شهدت أحداث اندماج كروموسومي، والتي جعلتْ خلايا البشر تحتوي على 46 كروموسومًا فقط، بدلًا من 48 كروموسومًا، كما هو الحال مع رئيسيات أخرى، وهو فرق جينومي رئيسي بيننا وبين أقرب أقاربنا.

وغالبًا ما ينصبّ تركيز التجارب التي تبحث في تطور الجينوم البشري على الدماغ. غير أنه، من الناحية التشريحية، فإن أغلب المعلومات التي نحتاج إليها عن التطوّر البشري لا تتوافر لدينا إلا من خلال الهياكل العظمية، التي تمثل النسيج الوحيد المحفوظ بصورة جيدة في السجل الأحفوري للبشراناويات، ويقدِّم هذا السجلّ الأحفوري رؤى معمَّقة، شديدة الأهمية، بشأن تطوّر قدرة البشر في المشي على قدمين، وما صاحبها من تغيّرات في شكل الحوض، وأطوال الأطراف9، وهي تطورات ربما تكون قد حدثت قبل تطوّر الدماغ. ومن ثمَّ، فإن الدور الذي لعبته تسلسلات التطور المعجل في جينوم الإنسان فيما يتعلق بنشوء قدرة المشي على رِجْلَين، سيكون موضوعًا يجذب كثيرًا من العلماء في الأبحاث القادمة.

وفي نهاية المطاف، بإمكان الحمض النووي القديم، المأخوذ من هياكل عظمية، أن ينبِّهنا إلى أهمية النقاط الوسيطة في رحلة التطور البشري على مدى تسلسلها من الناحية الجينومية. ففي عام 2022 مثلًا، جمع باحثون حمضًا نوويًا، من عيّنات يبلغ عمرها مليوني سنة10. ومع استمرار التقدّم التكنولوجي، ربما يصبح بإمكاننا الحصول على بيانات وراثية من بشراناويات مُنقرضة، مثل جنس Homo naledi، وجنس الإنسان المنتصب Homo erectus، وجنس القرد الجنوبي Australopithecus، وهي أجناس انفصلت تطوريًا عن سلالة الإنسان بعد تشعبه تطوريًا عن قردة الشمبانزي، ولكن قبل نشوء إنسان نياندرتال. ومن شأن المعلومات المُستقاة من جينومات مماثلة، أن تضيف مزيدًا من الوضوح لضروب التطفُر الجينومي، التي حدثت على امتداد تاريخنا التطوري، وأن تساعدنا أيضًا في فهم عملية التشعب التطوري التي أدت لظهور تسلسلات التطفُر المعجل في جينوم أسلاف الإنسان .

يوكارِسْت كون، وفاجيش إم. ناراسيمهان، يعملان بقسم البيولوجيا التكاملية، بجامعة تكساس في أوستن، مدينة أوستن، تكساس 78712، الولايات المتحدة الأمريكية.

بريد إلكتروني: eucharistkun@utexas.edu

vagheesh@utexas.edu

 

doi:10.1038/nmiddleeast.2023.168


1. The Chimpanzee Sequencing and Analysis Consortium. Nature 437, 69–87 (2005).

2. Mangan, R. J. et al. Cell 185, 4587–4603 (2022).

3. Pollard, K. S. et al. PLoS Genet. 2, e168 (2006).

4. Lindblad-Toh, K. et al. Nature 478, 476–482 (2011).

5. Doan, R. N. et al. Cell 167, 341–354 (2016).

6. Kimura, M. & Ohta, T. Proc. Natl Acad. Sci. USA. 71, 2848–2852 (1974).

7. Powell, C. M. & Miyakawa, T. Biol. Psychiatry 59, 1198–1207 (2006).

8. Rhie, A. et al. Nature 592, 737–746 (2021).

9. Aiello, L. & Dean, C. An Introduction to Human Evolutionary Anatomy (Academic, 1990).

10. Kjوr, K. H. et al. Nature 612, 283–291 (2022).