أخبار

إستراتيجية بديلة لمواجهة خطر البكتيريا المقاوِمة للمضادات الحيوية

نشرت بتاريخ 16 يوليو 2023

تعتمد على التحكُّم في ضراوة البكتيريا عن طريق تثبيط آلية "استشعار النصاب" التي تساعد البكتيريا على التواصل فيما بينها وتنظيم صفوفها والتكيف مع الإجهاد

محمد السيد علي

10174593_258/ iStock / Getty Images Plus

Enlarge image

"لا شيء يبقى كما كان أبدًا".. مقولة تُجسد ما آلت إليه الأمور الآن فيما يخص المضادات الحيوية التي صُنِّفت كأحد أعظم الإنجازات في الطب الحديث؛ فبعدما وضع اكتشاف أول مضاد حيوي "البنسلين" من قِبل العالِم الإسكتلندي ألكسندر فليمنج في 1928، وبداية عصر المضادات الحيوية في أربعينيات القرن العشرين، حدًّا للأمراض المُعدية، تراجعت فاعلية معظم تلك العقاقير على نحوٍ غير مسبوق.

ورغم أن المضادات الحيوية ما زالت تمتلك فاعليةً واسعةً ضد العدوى البكتيرية، فقد تنامى القلق العالمي مع ظهور "جراثيم خارقة" لا يقوى عليها سوى ما يُعرف بـ"مضادات الملاذ الأخير"، التي تُستخدم عندما تفشل كل المضادات الحيوية الأخرى في العلاج، والتي أصبحت فاعليتها هي الأخرى مهددة.

وأسهمت عوامل اجتماعية -مثل غياب السياسات الحكومية المنظمة لتناول المضادات الحيوية، وتناول الأشخاص لهذه العقاقير دون وصفة طبية- بالإضافة إلى عوامل خارجية -مثل سوء استخدام المضادات الحيوية في تربية الدواجن وتربية الأحياء المائية والزراعة- في ظهور تلك السلالات المقاوِمة للعلاج.

ومقاومة مضادات الميكروبات معدودة من أكبر عشرة تهديدات خطيرة للصحة العامة، كما أنها من أكبر المخاطر التي تحيق بالصحة العالمية والأمن الغذائي والتنمية، وتقوِّض الطب الحديث وتعرّض حياة الملايين للخطر، وفق تحذيرات منظمة الصحة العالمية.

عالميًّا، يموت 700 ألف شخص كل عام بسبب "الجراثيم الخارقة" التي لا تتأثر بالعلاجات القياسية، ومن المتوقع حدوث حوالي 10 ملايين حالة وفاة سنويًّا وخسائر تقدر بـ100 تريليون دولار بحلول 2050 من جرَّاء تلك الجراثيم إذا لم نجد حلولًا استباقيةً لها، وفق تقديرات بريطانية.

ويمثل ظهور مقاومة للمضادات الحيوية في البكتيريا المسببة للأمراض إيجابية الجرام وسالبة الجرام تهديدًا للبشر، ومنها المكورات العنقودية الذهبية المقاومة للميثيسيلين، والمكورات العنقودية الذهبية المقاومة للفانكومايسين، والمكورات المعوية المقاومة للفانكومايسين، والمكورات الرئوية المقاومة للكاربابينيم.

 

إستراتيجية بديلة

مع استهلاك ملايين الأطنان منذ بداية عصر المضادات الحيوية، وظهور جراثيم تطورت لديها قدرات داخلية لمقاومة عدد كبير من المضادات الحيوية، يعمل الباحثون على إستراتيجيات بديلة للتغلب على هذه المشكلة، إحداها هي التحكم في ضراوة البكتيريا والعوامل المُسببة للمراضة، عبر استهداف آلية تتحكم في مجموعة متنوعة من السلوكيات الفسيولوجية للبكتيريا، تسمى "استشعار النصاب" (quorum sensing).

يأتي ذلك بعدما أثبتت دراسات حديثة أن تلك الآلية وثيقة الصلة بمقاومة بعض سلالات البكتيريا للمضادات الحيوية، وأن إيقاف هذه الآلية أو تثبيطها يُعد إستراتيجيةً واعدة، ليس فقط للتغلب على مشكلات مقاومة البكتيريا للعقاقير، ولكن أيضًا لتطوير علاجات فعالة ضد العدوى.

لكن إلى أي مدى وصلت الأبحاث حول تلك الإستراتيجية؟ وهل حان الوقت لاعتمادها كخطة بديلة لمواجهة هذا الخطر؟ سؤال سعى فريق بحثي مصري للإجابة عنه في دراسة مرجعية نشرتها مؤخرًا دورية "سيل كوميونيكيشن آند سيجنالينج".

تقول نورهان نجا، الباحثة بقسم النبات والأحياء الدقيقة في كلية العلوم بجامعة الإسكندرية، والمؤلف الأول للدراسة: "إن وجود تقنيات بديلة لمواجهة خطر مقاومة مضادات الميكروبات أصبح حتميًّا لحماية الأرواح التي تُزهق سنويًّا بسبب مقاومة المضادات الحيوية".

تضيف "نجا" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": يُعد تثبيط استشعار النصاب إحدى الطُّرق البديلة التي تجري دراستها حاليًّا، بعد أن فقدت معظم المضادات الحيوية تأثيرها المضاد لسلالات البكتيريا المقاوِمة للعقاقير.

استشعار النصاب.. حينما تتواصل البكتيريا

يُدرك علماء البيولوجيا المجهرية جيدًا أن مجتمع البكتيريا مُعقّد للغاية، لكن اندهاشهم زاد حينما اكتشفوا لأول مرة في سبعينيات القرن الماضي أن البكتيريا لها نظامٌ فريدٌ في التواصل فيما بينها، لتنظيم صفوفها، حتى إذا وصلت إلى "نِصاب مُعيّن"، فيمكنها حينئذٍ أن تُحدث المراضة.

"هل تتحدث البكتيريا معًا وتتواصل؟ الإجابة بـ"نعم" قد تكون صادمةً للبعض، لكنها حقيقة؛ إذ إن آلية استشعار النِّصاب هي اللاعب الرئيسي في لغة الإشارة والتواصل بين البكتيريا، لذا يستهدف العلماء إيقاف تلك الآلية عبر مجموعة من المُثبطات"، وفق "نجا".

ويعني نظام التواصل هذا ببساطة أن "كل بكتيريا مفردة يمكن أن تستشعر وجود البكتيريا الأخرى حولها كي تتواصل معها عبر نظام إشارات كيميائي يُعرف باسم "استشعار النصاب"، وهو نظام تنبيه واستجابة تستخدمه البكتيريا لتنظيم التعبير الجيني لها تبعًا لكثافتها العددية في حيزٍ مكانيٍّ ما.

وتتحكم آلية "استشعار النصاب" في كثير من الخصائص الفسيولوجية والاستجابات السلوكية للبكتيريا موجبة الجرام وسالبة الجرام، عن طريق إفراز جزيئات الإشارة المعروفة أيضًا باسم الجزيئات ذاتية التحفيز، وعندما يصل تركيز جزيئات الإشارة تلك إلى عتبة معينة مع الكثافة العددية للبكتيريا، في حيزٍ مكانيٍّ ما، يمكن البدء في التعبير الجيني المسؤول عن مجموعة متنوعة من الوظائف الخلوية للبكتيريا، التي تتضمن بشكل أساسي تنظيم عوامل "الفَوْعَة" (وهي السِّمة المؤذية والضارة التي تصف قدرة الجراثيم على إحداث المرض)، وتحمُّل المُطهرات، وتكوين "الأبواغ"، وهي جزيئات بيولوجيّة مجهريّة تُساعد في نمو الفطريات في النباتات وتكاثرها، وإنتاج السموم، والحركة، وتكوين الأغشية الحيوية، وكل هذه الوظائف تُسهم في التكيف البكتيري مع الإجهاد في أثناء النمو والظروف البيئية القاسية، وتجعل البكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية.

تنشيط التعبير الجيني

من جهته، يشير هلال فؤاد حتة -أستاذ الميكروبيولوجيا الطبية والمناعة في كلية الطب بجامعة أسيوط بمصر- إلى أن جزيئات الإشارة المسؤولة عن آلية استشعار النصاب لدى البكتيريا سالبة الجرام تتمثل في الحمض "أسيل هوموسيرين لاكتونات" (AHL)، في حين تحدث تلك الآلية في البكتيريا موجبة الجرام بواسطة فئة من جزيئات الإشارات تُعرف بـ"الببتيد المستحث ذاتيًّا" (AIPs).

يضيف "حتة" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": عندما تبدأ جزيئات التواصل في الارتباط مع مستقبِلات داخل البكتيريا، تبدأ البكتيريا في تنشيط التعبير الجيني وإنتاج عوامل الضراوة مثل تكوين الأغشية الحيوية، ما يتسبب في مقاومة الجهاز المناعي في الجسم وكذلك مقاومة المضادات الحيوية.

وبمرور الوقت، تطور فهم العلماء لآلية استشعار النصاب، حتى توصلوا في تسعينيات القرن الماضي وأوائل القرن العشرين إلى أنه يمكن كبح هذه الآلية عبر مُثبطات كيميائية وطبيعية، لوقف مقاومة المضادات الحيوية.

ووفق الدراسة، فإن العلماء توصلوا حتى الآن إلى تطوير العديد من مثبطات استشعار النصاب الكيميائية والطبيعية للحد من إمراض الميكروبات.

يقول "حتة": النهج القائم على تثبيط استشعار النِّصاب له أهمية كبيرة في الوقت الحالي؛ لأن البكتيريا أصبحت مقاوِمةً لغالبية المضادات الحيوية، وهذه التقنية لها تطبيقات مستقبلية عدة تناولتها هذه الورقة البحثية، لكننا نحتاج إلى مضاعفة الجهد المبذول حتى تصبح هذه التقنية واقعًا ملموسًا.

تطبيقات مُتعددة

تعددت أبحاث العلماء لاستكشاف مجالات استخدام مثبطات "استشعار النصاب" ما بين الصحة والزراعة، مرورًا بمعالجة المياه، وانتهاءً بتربية الأحياء المائية ومصايد الأسماك، لكن الدور الأكبر يبرز في مجال الصحة؛ إذ يمكن استخدام مثبطات "استشعار النصاب" لمنع نمو البكتيريا المسببة للأمراض، واستهداف الخلايا السرطانية، بسبب تأثيراتها التي تقمع الأورام، بالإضافة إلى دورها في منع تكوُّن الأغشية الحيوية على الغرسات الطبية.

والأغشية الحيوية عبارة عن مجتمعات من البكتيريا تتشكّل عندما تلتصق الميكروبات الحرة بسطحٍ ما، بما في ذلك الغرسات الطبية، ويمكن أن تؤدي إلى الإصابة بالعدوى، وتمنع المثبطات تكوُّن تلك الأغشية عن طريق تعطيل آلية "استشعار النِّصاب" التي تستخدمها البكتيريا للتواصل معًا.

وعن أكثر المُثبطات الواعدة التي تم تطويرها حتى الآن، أشارت "نجا" إلى مادة "الفيورانون" (Furanone c30) التي ثبت أنها نجحت في كبح عوامل الضراوة للبكتيريا المُمرضة لدورها الأساسي في تثبيط "استشعار النصاب" ومنع تكوُّن الأغشية الحيوية التي تُعد المسبب الأول لمقاومة المضادات الحيوية.

وأضافت أن "مادة الفيورانون موجودة في المصادر الطبيعية مثل الفراولة، ومجموعة متنوعة من الفواكه الأخرى، وهي مسؤولة عن رائحة الأناناس والطماطم، وتوجد أيضًا كمركب كيميائي من الممكن شراؤه مصنَّعًا كأي مركب كيميائي يُعزل من مصدر طبيعي".

علاجات قائمة على المُثبطات

رغم التوصل إلى العديد من مثبطات "استشعار النِّصاب" الطبيعية والكيميائية، وإجراء تجارب معملية، ووصول تجارب على بعض المركبات الطبيعية إلى المراحل السريرية، فإنه لا يوجد حتى الآن دواء واحد قائم على تلك المثبطات، اعتمدته إدارة الغذاء والدواء الأمريكية.

تشير "نجا" إلى أن أبرز التحديات التي تواجه تطوير علاجات فعالة قائمة على هذه المثبطات ضد البكتيريا المقاومة للأدوية، خاصةً بالنسبة للإنسان، تتمثل في إجراء تجارب واسعة على مجموعة كبيرة من البشر، للكشف عن الآثار الجانبية المحتمل حدوثها.

من جهته، يرى خالد أبو شنب -أستاذ الميكروبيولوجي والمناعة بكلية الصيدلة بجامعة عين شمس المصرية- أن تأخُّر اعتماد أدوية بديلة للمضادات الحيوية تعتمد على تثبيط "استشعار النِّصاب" يرجع إلى أن مثبطات استشعار النصاب تختلف من بكتيريا إلى أخرى، ومن البكتيريا موجبة الجرام إلى سالبة الجرام، وكل مركب له طريقة في إبطال تلك الآلية، لذلك هناك أبحاث كثيرة تُجرى في هذا المجال بهدف وقف الشراسة البكتيرية، ومنع حدوث المراضة.

يقول "أبو شنب" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": يواجه العلماء حاليًّا مشكلةً تتمثل في أن بعض هذه المركبات لها بعض السُّمِّيَّة، وعندما تدخل في الجسم، فإنها تُحدث تفاعلات أخرى غير الهدف المحدد لها وهو تثبيط "استشعار النِّصاب".

وتابع: أثبتت هذه المركبات نتائج جيدة في إبطال هذه الآلية على الخلايا المعملية فقط، وتطور البحث باستخدام حيوانات التجارب، لكن معظم المحاولات لم تنجح حتى الآن في استخدام هذا النهج لمنع البكتيريا من إحداث العدوى ومضاعفاتها داخل جسم الإنسان، نظرًا إلى أن هناك آليات وتفاعلات لا بد أن تؤخذ في الاعتبار، منها السُّميّة الخلوية، وتفاعُل تلك المركبات مع الأنسجة داخل جسم الإنسان.

وأوضح أنه شارك في عدة دراسات على هذه الجزئية بمصر، أُجريت على الفئران، منها دراسة تناولت مدى فاعلية مستحضر عبارة عن "هيدروجيل" في منع عدوى بكتيرية مقاوِمة للمضادات الحيوية، وكانت العدوى سطحيةً على الجلد، وأثبت هذا المستحضر نجاحًا في منع العدوى بشكل موضعي على الجلد لدى الفئران، مشيرًا إلى أن تطوير مثل هذه المستحضرات وتحويلها إلى أدوية مُعتمدة للبشر يتطلب مزيدًا من التجارب على الحيوان والبشر.

لا يزال نهج مواجهة خطر مقاومة مضادات الميكروبات عبر مثبطات "استشعار النِّصاب" يتطلب بحثًا إضافيًّا، وفق الدراسة، ومن المتوقع أن يؤدي التقدم في البحث حول هذه الجزئية إلى إدخال مركبات جديدة لمكافحة المقاومة الميكروبية خلال العقود القادمة، بحيث يمكن استخدامها كعوامل طلاء في الأجهزة الطبية، لتحل محل المضادات الحيوية المضادة للجراثيم، داخل الأجسام الحية.

doi:10.1038/nmiddleeast.2023.104