مقالات
Commentary

Read this in English

اسألوني عن أبحاثي، لا عن صوركم النمطية

نشرت بتاريخ 29 مارس 2018

تقول ملاك عابد الثقفي: "واجهتُ تعصبًا، لكوني باحثة من الشرق الأوسط، أكثر مما واجهته لكوني امرأة عاملة في المملكة العربية السعودية".

© Malak Abedalthagafi

منذ بضعة أشهر تواصلَتْ معي مراسلة صحفية من جريدة معروفة على مستوى العالم؛ للحديث عن العلوم في المملكة العربية السعودية. كنت متحمسة لاهتمام هذه الجريدة الأجنبية ببلدي، حيث تتقدم النساء في مجالات مثل الفضاء الجويّ، والهندسة، والمال، والطب، لكنّ كل ما أرادت المراسلة أن تسمعه هو أفكاري حول الحجاب، وقيادة السيارة. 

نعم، كافة الشكاوى الشائعة صحيحة. نعم، سيُسمَح للنساء عما قريب بقيادة السيارات. نعم، نرتدي الحجاب، بل إننا نحتاج إلى إذْن من أجل السفر. ولا يزال مجتمعنا عتيقًا في العديد من النواحي.

ولكن ثمة حقيقة أخرى أتوق إلى مناقشتها، حقيقة يعمى عنها العديد من زملائي الأجانب، وهي أن النساء في السعودية مارسوا العلوم ممارسة حقيقية، واعتُرِف بهذه الممارسة منذ وقت طويل.

راودتني أول فكرة بشأن إمكانية أن أصبح عالمة عندما دخلتُ المستشفى وأنا طفلة صغيرة في ثمانينيات القرن الماضي. كنت أعاني من حالة وراثية، وأحجمتُ عن تناول أدويتي. وبعد أن أُجريت لي جراحة في لندن، أعلن والديّ أنهما سيأخذاني إلى أفضل أخصائية وراثة في السعودية. جلستُ هناك أنتظر إلى جانب العشرات من الأطفال. بَدَوْنا مختلفين جدًّا. البعض بدا بصحة جيدة، والبعض الآخر بدا طاعِنًا في السن، أو كان عليهم التنفس عبر ثقوب في أعناقهم.

عندما وصلت الأخصائية، ذُهلت! كانت تقود مجموعة من الأطباء في جولة بالعيادة، وتُملي عليهم أشياء كانوا يكتبونها بنَهَم. كانت قوية وجادة، ولم تكن ترتدي الحجاب.

علمتُ فيما بعد أن نادية عوني سقطي أنشأت واحدًا من أوائل أقسام علم الوراثة في المملكة العربية السعودية. كان واضحًا كسبها لاحترام أقرانها، وفي المختبر كانت تُعامَل كأي رجل تمامًا. كانت نادية سقطي بمثابة عنصر أساسي في حياتي أثناء حداثتي. كنت محظوظة بتمكّن والديّ من اصطحابي إلى عيادتها كل شهر تقريبًا على متن رحلة طيران.

أردتُ أن أكون مثلها تمامًا.

بعد دراسة الطب في جامعة الملك عبد العزيز في جدة، درستُ في الخارج في إطار "برنامج الملك عبد الله للابتعاث الخارجي"، الذي أرسل إلى الآن أكثر من 200 ألف سعودي حول العالم؛ للدراسة في جامعات مرموقة، كطلاب جامعيين، وطلاب دراسات عليا، وباحثين إكلينيكيين لما بعد الدراسات العليا. وبالرغم من اشتراط سفر النساء مع مِحرم، فإن ما يقرب من نصف مُتَلَقِّي المِنَح كانوا من النساء. 

عملتُ في كلية طب هارفارد، والمستشفيات التابعة لها في بوسطن بماساتشوستس، وجامعة جورج تاون بواشنطن العاصمة، وجامعة كاليفورنيا بسان فرانسيسكو. كنت أعلم أن الولايات المتحدة رائدة في عِلْم الوراثة، وأردت الحصول على أفضل تعليم في العالم، لكنهم – بكل أسف - جعلوني أشعر أن كوني من دولة نامية، فتلك وصمة لا يمكن محوها.

رفض بعض زملائي الأمريكيين تصديق إمكانية أن أكون قد تلقيتُ تعليمًا وافيًّا في بلدي. كنت دائمًا أُسأل عما إذا كان بإمكاني التحدث بالإنجليزية، وإذا كنت قد تعلمتُ هذا المفهوم الأساسي أو ذاك في كلية الطب، أو - باعتباري امرأة سعودية - إذا كانت لديَّ مشكلة في العمل جنبًا إلى جنب مع الرجال. كان صادمًا أن أسمع هذه الأسئلة من أناس يعملون بمؤسسات تُعتبر في مصاف المؤسسات العالمية.

دعاني ذات مرة بعض زملاء العمل في مشروع جديد إلى ساعة ترفيه. كنت سعيدة بانضمامي إليهم، لكنني اعترفتُ بعصبيةٍ أنني لا أشرب الخمور، فاستخفّ بي عضو بارز في المجموعة قائلًا: "ماذا! هل أنت خائفة أن يقطعوا رقبتك عندما تعودين إلى بلدك؟"

لقد أوجعتني هذه التعليقات، فحتى ذلك الحين، كنتُ أشعر بالمساواة في المختبر، لكنني ذُكِّرت في تلك اللحظة بأنني سأكون دائمًا مختلفة في نظرهم.

عندما سمعتُ عن مشروع الجينوم السعودي الوطني في عام 2014، عرفتُ أن عليَّ العودة إلى بلادي. أردت أن أعود إلى حيث أشعر بالانتماء؛ أن أكون بالقرب من عائلتي، وأن أساعد في فك شفرة جينوم أبناء وطني. فوجود أجيال من زواج الأقارب يعني احتواء السعودية على العديد من الاضطرابات الجينية النادرة. وقد توسعت المملكة في إنتاجيتها العلمية بسرعة كبيرة على مدار الأعوام الخمسة الماضية. وهي الآن تقع في التصنيف بين أيرلندا، والأرجنتين، من حيث مخرجات البحوث عالية الجودة، طبقًا لمؤشر Nature.

خلال أسابيع من عودتي، اتصلَتْ بي نادية سقطي، للترحيب بعودتي. وفي المختبر، يعاملني الجميع باحترام، وإنجازاتي وبحوثي العلمية تتحدث عن نفسها.

لا يمكنني دائمًا أن أجد ذلك في مكان آخر. ففي مؤتمر في أمريكا الشمالية خلال العام الماضي، وصفتُ حالة مريضة قمنا بعلاجها في مستشفى بالرياض، وهي فتاة في الخامسة من عمرها، تعاني من ورم في الدماغ. كنا قد استنفدنا كل الخيارات المتعارف عليها، واختارت عائلتها الرعاية في مرحلة الاحتضار.

وبعد مراجعة حالتها بعناية، والتأكد من سجلها الوراثي، والحصول على الموافقات الأخلاقية اللازمة، وإجراء حوار مُفصَّل مع والديها، أشرتُ على أحد أعضاء فريقي بعلاجها ببعض العقاقير التجريبية.

ثار طبيب أورام من أمريكا الشمالية عند سماعه حديثي، وسأل مستشيطًا من الغضب: "كيف تجرّأ فريقك على علاج هذه المريضة؟"، مفترِضًا أنه ليس لدينا المقدرة الإكلينيكية على إعطاء علاجات جديدة. وعندما استمع إلى بقية ما كنتُ أقوله عن الحالة؛ اعتذر لي.

مِن المهم أن يتذكّر العلماء في السعودية وغيرها من الدول النامية أن استخدام الصور النمطية ليس فعلًا واعيًا. وعلينا أن نكون مستعدين لمواجهته، وعلى علماء الدول الغربية أن يعملوا بجد؛ لتتجاوز رؤيتهم أفكارهم المُسبَقة.

في هذه الأثناء، حظيت الفتاة الصغيرة التي عالجناها بفرصة أخرى للحياة، وحالتها مستمرة في التحسن، وتداوم على أدويتها.

ملاك عابد الثقفي رئيسة أبحاث الجينوم في "مدينة الملك فهد الطبية"، وعالمة الأمراض العصبية في "مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية" بالمملكة العربية السعودية.

تم نشر هذا المقال للمرة الأولى على Nature  الطبعة العربية.

doi:10.1038/nmiddleeast.2018.38