مقالات

علاج الأمراض النفسية في الشرق الأوسط

نشرت بتاريخ 23 أغسطس 2012

ينبغي على الأطباء النفسيين في منطقة الشرق الأوسط التوصل إلى سبل واضحة لعلاج الأمراض النفسية، تتناول الخصوصيات الثقافية والعرقية والوراثية للمنطقة.

محمد يحيى


تنتشر الاضطرابات النفسية بصورة متزايدة في الشرق الأوسط، لكن النموذج المستخدم لتقييم وعلاج المرضى في المنطقة كان قد وضعه سكان الأنجلو ساكسون المقيمون في الولايات المتحدة وغرب أوروبا.

وقد أسهَمَ مؤخرًا الدكتور زياد قرنفل، الطبيب النفسي في كلية طب وايل كورنيل في قطر، في تنظيم مؤتمر، لمناقشة سبل تطوير الإرشادات لعلاج الأمراض النفسية بطريقة أفضل.

وفي مقابلة مع "نيتشر ميدل إيست Nature Middle East "، يتطرق الدكتور قرنفل إلى هذه المشكلة، ويقترح توجهات على المَدَيَيْن القصير والطويل؛ لعلاج الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية في المنطقة.

هل تمثل الأمراض النفسية مشكلة خطيرة في العالم العربي؟

تشير الإحصاءات إلى أن انتشار معظم الاضطرابات النفسية لا يتنوع بصورة كبيرة من دولة إلى أخرى حول العالم، فمرض الفصام أو "شيزوفرنيا" ـ على سبيل المثال ـ يؤثر على واحد في المئة من سكان العالم، في حين أن القلق والاكتئاب أكثر شيوعًا، حيث يصيبان عشرة في المئة من السكان على الأقل. لا يوجد سبب للاعتقاد بأن الدول العربية تمثل حالة منفردة. تؤكد الإحصاءات القليلة الواردة من دول عربية بعينها (على سبيل المثال.. لبنان، ومصر) على هذه الحقيقة. وتتعلق المشكلة في العالم العربي بالوصمة والجهل أكثر من كونها تتعلق بقلة مشاكل الصحة النفسية.

ما هي الاختلافات بين مشاكل الصحة النفسية في العالم الغربي والدول النامية؟ ولماذا توجَد هناك حاجة لنموذج جديد للعلاج في هذه المنطقة؟

يعتمد الطب النفسي بصورة كبيرة ـ ربما أكثر من أي تخصص طبي آخرـ على الجانب الثقافي. وبالرغم من أن الأمراض قد تكون مماثلة، إلا أن المظاهر الخاصة بأي اضطراب محدد تتنوع في الثقافة التي تظهر بها. في الدول المتقدمة، هناك توصيف جيد للاضطرابات النفسية، فبالنسبة إلى معظم الاضطرابات النفسية، فإننا ندرك الأعراض وعوامل الخطورة والمضاعفات، استنادًا إلى بيانات من هذه الدولة، ولهذا.. من السهل التعرف على المرض النفسي وعلاجه.

أما في الدول النامية، فإن هناك نقصًا في هذه البيانات بشكل جوهري، حيث إننا لا نعرف ـ على وجه الدقة ـ مدى انتشار هذه الاضطرابات الشائعة، مثل القلق والاكتئاب، ونحن لا نعلم كم عدد الأشخاص الذين انتحروا، وما هي الأسباب التي دَعَتهم إلى ذلك. لذا.. يتم في الغالب تجاهل هذه المشاكل، بل إن الأطباء ربما لا يدركون حجم المشكلة، نظرًا إلى تجاهل هذه القضايا في أغلب الأحيان في المناهج الدراسية الطبية الخاصة بهم. ولذلك، قررنا في هذا الاجتماع البدء بالمناهج الطبية الجامعية، حيث إنه طالما أن الطبيب الممارس ليست له دراية بهذه المشكلات، فإننا لن نستطيع أن نحرز تقدمًا كبيرًا على مستوى المجتمع.

ما هي القضايا الثقافية في الشرق الأوسط التي يمكن أن تلعب دورًا في الاضطرابات النفسية؟

لقد ذكرت سابقًا الوصمة والجهل، وتأثيرهما السلبي على الصحة النفسية، لكنْ هناك عوامل أخرى، مثل العائلة، والدين، يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي. الروابط الأسرية قوية في الشرق الأوسط؛ وهذا يمكن أن يلعب دورًا إيجابيًّا؛ لدرجة أنه يتم الاستعانة بها كعامل دعم اجتماعي هائل وسط الضغوط الاجتماعية الكثيرة. وبالمثل، فإن تأثير الدين يمكن أن يكون إيجابيًّا، حيث يكون محفزًا على فعل الخير، وحماية الشخص من الضرر، ومن بينه الضرر الذي يجلبه إلى نفسه. وبعبارة أخرى، يمكن أن يكون الدين عاملاً يحمي الإنسان من الانتحار.

وبالإضافة إلى ذلك.. لا يمكننا التطرق إلى القضايا الثقافية في الشرق الأوسط، بدون ذكر المعالج الديني. إن معظم المرضى الذين يعانون من أمراض نفسية في هذا الجزء من العالم يذهبون ـ في بادئ الأمر ـ إلى معالج ديني أو روحاني، تكون مهمته في الغالب تحرير المريض من "العين الشريرة"، وفي هذا الأمر يتم ـ في أغلب الأحيان ـ إهدار وقت كبير، ويتعرض المريض لمعاناة مستمرة يمكن تجنبها قبل استخدام وسائل العلاج العلمية في نهاية المطاف.

هل هناك أي دول عربية طورت ـ أو تعمل على تطوير ـ برامج توعية بالصحة النفسية تَفِي باحتياجات المنطقة؟

يحتاج الناجون من الحرب إلى أسلوب تعامل خاص، لأن مشاكلهم أكثر تعقيدًا بكثير.

هناك بالتأكيد زيادة في الوعي في معظم الدول العربية بأهمية مشاكل الصحة النفسية، كجزء من الصورة العامة للرعاية الصحية، لكن نادرًا ما يترجم هذا الوعي إلى إجراء عملي على أرض الواقع. ومعظم الجامعات الطبية في العالم العربي لديها برامج ابتدائية للصحة النفسية، وهذا في الغالب يكون في شكل محاضرات متفرقة، ومناوبات قصيرة في العيادات أو العنابر.

لا يتم إيلاء اهتمام يُذكر بتعليم مهارات المقابلات والمواقف المتغيرة إزاء الصحة النفسية، ولا يتم أيضًا إيلاء اهتمام يُذكر للمسار الطبيعي للمرض وتأثيرات العلاج، من خلال متابعة المريض ذاته مع مرور الوقت. ولا يخصص وقت كبير بالفعل للتعامل مع المريض ومشاكله ـ أو مشاكلها ـ النفسية. وهناك بشكل عام نقص في الأبحاث السريرية، ونادرًا ما تكون هناك رقابة سريرية.

وبالرغم من أن هناك مبادرات واعدة في لبنان، ومصر، والمغرب، وبعض دول مجلس التعاون الخليجي، فإن هذا ـ مع الأسف ـ هو الوضع القائم في معظم الدول.

هل هناك مجموعات من الناس تكون معرضة ـ بشكل خاص ـ للأمراض النفسية في العالم العربي؟

في الشرق الأوسط هناك عدد كبير من المشردين، معظمهم لاجئون وأشخاص عانوا من صراعات عسكرية وحروب. وهذه الفئة ـ على الأخص ـ تواجه وضعًا خطيرًا، خاصة بالنسبة إلى اضطرابات ما بعد الصدمة. والمجموعة الأخرى من السكان المعرضين للخطر في منطقة الخليج هي مجموعة السكان المغتربين، ومعظمهم من طبقة العمال وخادمات المنازل، الذين واللاتي يغادرون ويغادرن بلادهم وبلادهن الأصلية، ويأتون ويأتين للعمل في دول الخليج؛ ويواجهون ويواجهن أحيانًا أوضاعًا أقل من المستوى الأمثل.

هل تحتاج هذه المجموعات إلى متطلبات علاج خاصة؟

يحتاج الناجون من الحرب إلى أسلوب تعامل خاص، لأن مشاكلهم أكثر تعقيدًا بكثير، حيث إنهم قد يكونوا مشردين، أو فقدوا أحد أفراد أسرهم أو أكثر، أو أحد أحبائهم، وعانوا هم أنفسهم من إصابات جسدية، أو مشكلات نفسية. ويبدو أن التوجه الجماعي الذي تشارك فيه الممرضة والطبيب النفسي والأخصائي الاجتماعي هو الأنسب لهؤلاء الأشخاص.

إن قضية العمال المغتربين وخادمات المنازل مختلفة قليلاً، حيث إنها أكثر ارتباطًا بشخص معين، أو مجموعة معينة، أو وكالة. والتوجه الأفضل هنا قد يكون وقائيًّا في شكل قوانين و/أو إرشادات تنظم التفاعلات بين الموظفين وأرباب العمل.

كيف ترون ضرورة تغيير مناهج التعليم لطلاب الطب في هذه المنطقة من العالم؟

إنه من الخرافة القول إن علاج هذه الاضطرابات لا يمكن تحمل تكلفته في الدول الفقيرة النامية.

تحتاج المناهج الجامعية المتعلقة بالطب النفسي إلى تحديث باستخدام وسائل التدريس الحديثة، وينبغي على هذه المناهج أن تعزز المعرفة والمهارات. وبالإضافة إلى تزويد الطبيب الشاب بالمعرفة الحديثة، فإنه يجب عليه أن يكون ماهرًا في إقامة "علاقة" مع مريضه، أو مريضته، وأنْ يكون لديه الاستعداد المطلوب لإجراء مقابلة نفسية. ولا يمكن تعليم هذه المهارات في محاضرات في فصول دراسية كبيرة، بل يتم اكتسابها في جلسات لمجموعات صغيرة من خلال نهج عملي.

من الضروري تغيير التوجهات بشأن المرض النفسي، حيث يُنظَر إلى الأمراض النفسية حاليًا بوصفها اضطرابات في العقل، وهي اضطرابات يمكن ـ في أغلب الأحيان ـ علاجها بنجاح من خلال استخدام الأدوية. هناك حاجة إلى أن نفسح المجال للتوجهات النفسية لعلاج المرض النفسي. وقد أظهرت الأدلة البحثية أن التدخل النفسي يمكنه أن يعيد الوظائف الفسيولوجية إلى العقل، مثلما تفعل الأدوية.

تغيير مناهج التعليم يمثل استجابة طويلة الأمد، وفي الوقت نفسه، ما الذي يمكن القيام به لعلاج مشكلة طارئة يتم التقليل من شأنها في المنطقة؟

يحتاج المتخصصون في مجال الصحة النفسية، والعاملون في مجال الصحة العامة إلى توعية الجمهور بأهمية الصحة النفسية. وقد توقعت منظمة الصحة العالمية أنه بنهاية عام 2020، سيكون الاكتئاب هو السبب الثاني الأكثر شيوعًا للإصابة بالإعاقة في أنحاء العالم بعد مرض نقص تروية القلب. وبالنسبة إلى الفئة العمرية للأشخاص بين 15 و44 عامًا، يعتبر الاكتئاب السبب الأول للإعاقة، يعقبه تناول المشروبات الكحولية، وهذا يتطلب بالضرورة سياسة للصحة العامة، تكون مهيأة لتحقيق الوقاية من هذه الاضطرابات، وعلاجها.

في الدول الأكثر فقرًا، هناك نقص في الكوادر المتخصصة المدربة. كيف يمكن تمكين هذه الدول للتصدي لمشكلات الصحة النفسية؟

هناك مناطق في العالم يوجد فيها طبيب نفسي واحد لكل مليون شخص، وبعض الدول العربية الفقيرة ليست أأفضل حالاً بكثير. والحل الأمثل هو تعليم وتدريب أطباء الرعاية الأولية وأطباء الأسر؛ للتعرف على الاضطرابات النفسية الشائعة، وعلاجها، وهذا هو السبب في مطالبتنا بتغيير المناهج الجامعية؛ حتى يتم تدريب أطباء الرعاية الأولية مستقبلاً على التعامل مع أكثر الحالات النفسية شيوعًا.

على مستوى الدولة، هل هناك حاجة إلى تغيير سياسات وخطط الصحة النفسية؟

نعم، بالطبع. إننا أولاً نطالب بتغطية شاملة لأمور الصحة النفسية (في سياسات الصحة العامة) بنفس الطريقة التي تتم بها تغطية المشاكل الطبية الأخرى. وثانيًا، ينبغي على كافة الدول أن يكون لديها "قانون" أو "مدونة" للصحة النفسية، حتى يتم تحقيق التوازن بين حقوق المرضى النفسيين في السلامة والجودة مع حقوقهم في الحرية والخصوصية.

وعلى سبيل المثال.. فالمريض الذي يرغب في الانتحار، ويرفض العلاج.. كيف يمكننا تحقيق التوازن بين حقه ـ أو حقها ـ في رفض العلاج مع الحاجة إلى حماية المريض من تداعيات مرضه (الانتحار مثلاً)؟ متى يمكننا إجبار المريض على تلقِّي العلاج؛ لحمايته أو حماية الآخرين من تداعيات مرضه، أو مرضها (أي الانتحار أو القتل)؟

ومن أجل التصدي للوضع الماثل، فإن أخصائي الصحة النفسية، أو الشرطة الموجودة في موقع الحادث بحاجة إلى أن تكون لديها إرشادات للمساعدة في عملية اتخاذ القرار، وينبغي أن تكون هناك قواعد ونظم تحكم السيناريوهات المختلفة، ويتم تطبيقها في شكل قوانين. إن معظم الدول المتقدمة لديها تشريعات خاصة للتعامل مع هذه القضايا، وهذا ليس الوضع في معظم الدول العربية، حيث يظل الشخص المريض نفسيًّا يعاني من أشكال مختلفة من سوء المعاملة والإهمال.

هناك اعتقاد عام بأن علاج الأمراض النفسية لا يمكن تحمل تكلفته، خاصة في الدول النامية الأكثر فقرًا، هل هذا صحيح؟

إننا في العالم العربي نطالب منذ عقود بالاسترخاء والراحة كعلاج للمرض الجسدي والنفسي.

إن من الخرافة القول إن الاضطرابات النفسية تشيع فقط بين الدول الغنية أو المتقدمة، وإنه لخرافة أيضًا القول إن علاج هذه الاضطرابات لا يمكن تحمل تكلفته في الدول الفقيرة النامية. يمكن علاج معظم هذه الاضطرابات بالأدوية التي تكون متاحة في الصيدليات في أنحاء العالم.

ويمكن التخفيف من تأثير النقص الحاد في المتخصصين في الصحة النفسية في الدول النامية من خلال مساعدة أطباء الرعاية الأولية على التعامل مع الاضطرابات النفسية الأكثر شيوعًا. وفي حقيقة الأمر، فإن العلاج يوفر عادة المال، لأنه يقلل من الخسائر الهائلة المصاحبة للإعاقة والبطالة الناجمة عن المرض النفسي.

وربما تكون تكلفة العلاج المناسب مشكلة في بعض الدول، حيث ترغب شركات الأدوية في تحقيق ربح، وتريد شركات التأمين خفض التكلفة، ويصبح المرضى النفسيون هدفًا سهلاً، ويتم استبعاد الدواء الأمثل، الذي يكون غالي الثمن إلى حد بعيد، في أغلب الأحيان، وإحلال دواء آخر محله، أقدم وأقل فاعلية، أو إحلال أدوية يمكن رفضها تمامًا، وهنا تكمن المشكلة. إننا في قطر محظوظون للغاية، لأن الرعاية الصحية ـ التي تتضمن أدوية وعلاجًا لمشاكل الصحة النفسية ـ هي بشكل أساسي شاملة ومجانية، ولذا.. فإن قطر لها السبق على دول كثيرة في هذا الصدد.

لقد ركزتم على المناعة العصبية النفسية في أبحاثكم في الماضي، فهل ترون اختلافاً في هذا المجال بين الغرب ودول العالم النامي؟

تعني المناعة العصبية النفسية ـ بشكل جوهري ـ دراسة العلاقة بين المخ والنظام المناعي. وبالنسبة إلى الأطباء، فإنها تكشف العلاقة بين عقلنا (الشخصية، المشاعر، مستوى توتر إلخ) ومدى قابلية تعرضنا للأمراض النفسية، مثل العدوى، وأمراض القلب والسرطان.

استيقظ الغرب، الذي ظل على مدى عقود متأثرًا بنظرية ديكارت عن الفصل بين الجسم والعقل، على المفهوم القائل بأن أحدهما يمكن أن يؤثر على الآخر، والعكس بالعكس. ونحن في آسيا والشرق الأوسط كنا على دراية بذلك طوال الوقت. ومثال على ذلك.. ممارسة اليوجا، أو رقصة الدراويش الدائرية التي يحرص عليها الصوفيون. القضية هنا هي التأثير الذي قد يكون لأي من الجسم والعقل على الآخر.

وفي الغرب هناك اهتمام متزايد بالمفهوم القائل بأن المشاعر السلبية قد يكون لها تأثير مؤذ على الصحة العامة للمرء. وإننا في العالم العربي نطالب منذ عقود بالاسترخاء والراحة كعلاج للمرض الجسدي والنفسي، وهنا ـ مرة أخرى ـ قد نكون لدينا الأسبقية.

هل هناك حاجة إلى مخاطبة عامة الجمهور، وتغيير توجهاتهم؟

يمثل هذا أهمية قصوى، وبدون أن يكون هناك تغيير في التوجه على المستويات القاعدية، فإن الأمر لن يتغير كثيرًا. وتطلق منظمة الصحة العالمية، بالإضافة إلى منظمات الصحة النفسية العالمية والقومية والمحلية، حملة سنوية للترويج "لأسبوع الصحة النفسية"؛ لزيادة الوعي الجماهيري بشأن قضايا الصحة النفسية.

ونحن في كلية طب وايل كورنيل في قطر تعاوَنّا مع المجلس الأعلى للصحة في قطر، ومؤسسة حمد الطبية؛ لتنظيم مثل هذه المناسبات. وبالإضافة إلى ذلك، فإننا ننظم شهريًّا مناسبة تثقيفية مجتمعية تُدْعَى "الطب وأنت"، وقد شاركت أنا وزملائي في هذه المناسبة، من خلال إلقاء محاضرات عامة، وتنظيم ندوات لمناقشة هذه القضايا داخل مجتمعنا.

doi:10.1038/nmiddleeast.2012.121